عُرفت بدايات الرواية في الغرب بلغتها المتكلّفة والمتحذلقة، النمط الشبيه بها عربياً – مع الفارق – روايات مصطفى لطفي المنفلوطي شديدة العاطفية، المأخوذة أصلاً عن روايات فرنسية رومانسية لشاتوبريان، وبرناردين دو سان بيير، وألفونس دي كار. لم تقلّ عن مثيلتها الغربية في استدرار الدموع، والفضيلة المعذّبة، والجمال المصفّى. أحد النقاد قال عن المنفلوطي بأنه يصف الحديقة بأجمل من الحديقة نفسها، وهي شهادة طيّبة في بلوغ ما هو أكثر من الكمال.

بيد أن مثيلتها الغربية فاقتها ليس في الجمال ولا في الدموع، بل بكثرة المبالغات، وربما استفادت من “ألف ليلة وليلة”. تدور أحداثها في أمكنة خيالية أو قصيّة، لا أقلّ من نهاية العالم، من دون أن تعبأ بالجغرافيا، فالسفر إلى الصين قد يأخذ بضعة أيام، ذهاباً وإياباً. تختزن هذه الأعمال روحاً تواقة إلى إصلاح العالم بخطة تحقق المجتمع المثالي، لا يغيب عنها النظر إلى الحياة على أنها حلم لا علاقة له بالواقع، أو معركة يجب أن نمتلك الإرادة والعزيمة لئلا نخسرها.

أما الحب، فالاعتقاد بالعشق النبيل، والتدله بالحبيبة، والأفضل أن تكون مستحيلة المنال، فيحافظ الفارس على حبّه لها طوال الرواية، تمتدّ إلى ما يزيد أحياناً عن ألف من الصفحات، لا تقتصر على عشقه العفيف، ستمتلئ بالغزوات والمعارك وخوض البحار، والأسر والهروب تحت جنح الظلام، تساعده ألعاب الزمان والمكان، غالباً هناك فارس ضاع بين السهوب والقفار أياماً وليالي، ولم يعطش فرسه، ورسالة سُرقت وضلت مراراً طريقها قبل ان تصل الى من أرسلت إليه.

لا يمكن تفسير عبث المخيّلة إلا كهروب من واقع مروّع

هذه الروايات لم يعد من الممكن قراءتها اليوم، ففرسان الأرستقراطيات، لم يوجدوا إلا على الورق، لغتهم غير لغتنا، بل نقيضها، وقد يلقى فارس خطاباً من عشر صفحات عن مآثره التي لا تعدّ ولا تحصى. هل تستطيع الحبيبة تحمل هذا الزخم من الكلام، قبل عناق اللقاء بعد بعاد دام سنوات؟ ثم إن المواضيع التي كانت تثير الخيال آنذاك مضى زمنها قطعاً، سواء في طبيعتها أو في أسلوبها، ولا يمكننا تبيّن فكرة عن السحر الذي تحتوي عليه هذه الروايات إلا في حال قراءة ملخص عنها.

تقفز بنا هذه الروايات إلى روايات تُصنع في زماننا، فهي تشبهها في تعمّد الغرائبي، ولو كان تافهاً لكنه مذهل، لمجرد مخالفته للمألوف، لا لتعقد الحياة، أو لتقدم العلم. لا بأس إنها مثل ما سبقها حافلة بالأخطاء في استنتاج، ما لا يستنتج منه سوى الغرابة للغرابة، تتجلّى بحرية أكبر، فالجنس أصبح سهلاً، والملابس للإغراء لا للحشمة، والحب المتبادل المفاجئ، سرعان ما يقود العاشقين إلى الفراش، والأدعى للإدهاش، الخيانات بلا سبب. من قبل كانت عقدة غرامية كأداء، تقود الرواية، وتتخذ تعلة وحسب، وقد تنسى، وتتوالد المغامرات الواحدة من الأخرى، فتتعقد وتتشابك، فيكون التهيؤ للمعركة وتسيل الدماء مع الدموع، ولا تخلو من اختطاف واختفاء واسفار، وخلط بين رجل ورجل، أو امرأة ورجل متنكر بامرأة أو بالعكس (…) أحياناً تتوقف الحكاية وتذهب لتسرد مغامرات لأشخاص ثانويين، لن نستغرب، مادام الخيال يسيطر على الرواية.

عالم من الخيال، لا شيء صحيحا فيه، قراء ذلك الزمن يعرفون ذلك مسبقاً. يتجدّد حالياً في الرواية منذ عقد وأكثر، فقد انزاح القلم تحت تأثير “الواقعية السحرية” إلى سحر فضفاض بلا واقع. لا يمكن تعليل هذا بفقر الواقع، فحياتنا تغصّ بالوقائع، وفاقت قدرتنا على التحمّل، ولا يمكن تفسير عبث المخيّلة إلا أنه هروب من واقع مروّع. مهما يكن متى تتوقّف الرواية عن الخوض في الخرافات الهلامية؟

على هذا النحو وُلد عالم روائي يهدف الى الإدهاش، لا يخفي سحره، هو سحر الحرية، سحر المخيّلة المحض في التخلّص من الحقيقة، والابتعاد عن الواقع. تدين هذه المجانية الكاملة للخيال المستريح، منحت القرّاء روايات مسلية دون أي هدف آخر، كانت رائجة في العالم، وأفضل ما تمخّض عنها الروايات البوليسية والجاسوسية، بعدما تخلّصت من لامنطقيتها، وأصبحت أسيرة منطق الباحث الجنائي والعميل السري والشرطي، أي لا بدّ من سبب، ولا بدّ من دافع، ولا بدّ من مجرم يستفيد من جريمته، ولا بد من القبض عليه.