يُعد وصف المكان من التقنيات السردية الأساسية في العمل الروائي؛ إذ يشكّل أداة جوهرية في بناء العالم التخييلي للنص. ويُسهم وصف المكان في تحديد الإطار المكاني للأحداث، بما يتيح للقارئ إدراك البيئة التي تتحرك فيها الشخصيات، وفهم الخلفيات الاجتماعية والثقافية والنفسية التي تؤثر على مسار السرد.
تتجاوز وظيفة المكان كونه مجرد خلفية للأحداث، ليصبح عنصرًا دلاليًا يشارك في تشكيل المعنى العام للنص، حيث يمكن أن يعكس أبعادًا رمزية أو إيحائية مرتبطة بالموضوعات الكبرى للرواية، مثل الصراع، أوالحرية، أو الانتماء. كما يمكن أن يُستخدم الوصف المكاني لتعميق الأثر الجمالي للنص عبر خلق صور حسية تُثري تجربة القارئ، وتجعله أكثر انغماسًا في عالم الحكاية.
من الناحية التقنية، يوظّف الروائي الوصف المكاني بأساليب مختلفة، منها الوصف التفصيلي المباشر، أو المزج بين الوصف والسرد الزمني، أو جعله متغيرًا تبعًا لتطور الأحداث والشخصيات. وكلما كان الوصف متماهيًا مع الرؤية السردية للنص، ازدادت قيمته الفنية وقدرته على خدمة البنية الروائية. وهذا ما يميز وصف المكان في عالم فواز حداد الروائي؛ حيث يتماهى المكان كأحد مكونات السرد مع رؤية الكاتب الذي عمد منذ العتبة النصية الأولى للسرد الروائي وللمكان إلى غمس المتلقي في الرؤية السردية، التي زادت من قيمة المكان الفنية، ومنحته قدرة فائقة على صياغة الفضاء الروائي، ونقل الرؤية السردية بفاعلية وتقنية عالية؛ فمن العنوان “جمهورية الظلام” المكان الأوسع الذي تتحدث عنه الرواية إلى “الغرفة السوداء” المكان الأضيق الذي يتجسد فيه الوطن، وهذه الغرفة السوداء هي إحدى غرف “مشفى تشرين العسكري” .
(«الغرفة السوداء ». امتياز، لم يحظ به إلا القلة. اعتقد المحقق أنها غرفة طُليت جدرانها باللون الأسود، لكن الضابط سينفي الطلاء والجدران، ولن ينكر السواد، ليس بسبب اللون، بل لظلامها الدامس الذي لا يشوبه نزر، ولو ضئيلا من الضوء. غرفة واسعة عبارة عن مهجع صغير، لكنه يتسع للعشرات، لم تظفر به أي مستشفى، فالأسرّة على طبقات، يربط إليها معتقلون، زُجّ بهم بناءً على توصية من بعض الجهات المسؤولة، يحتوي على حالات خاصة لأشخاص يُراد التشفي منهم، ولو عن بعد، تنفيذًا لوعود أزجيت إليهم بتمويتهم خلال أطول فترة ممكنة، عُهد إلى المستشفى بتأمين الزمن والأسلوب. فكّر الأطباء، بعد الأخذ بالاعتبار، ضآلة إمكانات المستشفى، ما يساعد على مطمطة التعذيب لأطول وقت ممكن، فتوصلوا إلى عملية تستوعب الحالات جميعها، تسمح بالتركيز على التقدم المتمهل للألم وتصاعده، تخلف شعورًا لدى المعتقلين بالتسلل الوئيد للموت، مع انسحاب الروح المتمهل من الجسد، أي الإحساس بأن الروح وصلت إلى الرمق الأخير، دون أن تبلغه، وأنهم في حضرة قابض الأرواح، يمارس عمله بصبر ودأب؛ يفرمهم ويسحقهم ويخنقهم، كل هذا بتؤدة، يأخذهم إلى حافة الموت .
تُشكّل “الغرفة السوداء” الفضاء الروائي في الرواية في ظلِّ الجمهورية القابعة في ظلام شامل؛ إذ تجسد الأماكن والأحداث بيئة معتمة، تفتقر إلى الحرية والنور، وهذا الانعكاس المكاني يعزز من دلالة العنوان ويوضح طبيعة “الجمهورية” ككيان يعيش في ظلمات القهر والاضطهاد؛ فالأماكن هي الفروع الأمنية التي تُدار البلاد من خلالها، وتتحكم بمصائر البشر دون أن يكون لديهم تهمة أو جريمة ارتكبوها، فيكفي أنهم مواطنون، وتلك تهمة تكفي لتحويلهم إلى الزنازين، والأقبية، والغرف السوداء .
يتشابك المكان و الفضاء الروائي لخلق صورة متكاملة للواقع الذي تصفه الرواية؛ “جمهورية الظلام” التي تعني مجتمعًا سياسيًا لا يرحم، يسوده القمع والإقصاء، “فالغرفة السوداء” في الفضاء الروائي تعكس هذا الواقع بطريقة حسية ومباشرة؛ فهي بمنزلة قلب الظلام الذي يضرب في عمق هذه الجمهورية، حيث يتجسد الظلام المادي والمعنوي على حد سواء.
الغرفة السوداء في “جمهورية الظلام” ليست مجرد غرفة في مشفى، السبب الداعي لوجوده استطباب المرضى والجرحى، حتى إن كانوا معتقلين، وليست غرفة الموت البطيء الذي يُعاقَب به المعتقل حتى آخر نفس يخرج من رئتيه؛ إنها مساحة رمزية محورية ضمن الفضاء الروائي، إذ تُمثِّل جسد الظلام الذي يُحبَس فيه الأفراد حتى الموت. هذه الغرفة ليست مجرد مكان مادي؛ بل رمز يعبر عن العزلة التامة؛ حيث يُحاصر الإنسان بعيداً عن العالم، منعزلاً في ظلمة مطلقة، مما يعكس بطش النظام الذي يعزل الأفراد وينفيهم .
هي ظلام الحرمان فلا وجود للضوء، أوالماء، أو الغذاء، مما يجعل الغرفة رمزًا لحالة الحرمان القسري، التي يعيشها الفرد تحت وطأة القمع، في ظل حكومة تحكم بيد من حديد. و يتجسد اللاوجود في الغرفة السوداء المكان الذي يُحجَب فيه الوجود الإنساني؛ حيث يتحول الأشخاص إلى “لا شيء” بلا حياة ولا أمل، وكأنهم محوٌ من الوجود، بما يعكس واقع الإلغاء السياسي والاجتماعي، الذي مارسه النظام على أعدائه و معارضيه.—