في الثلث الأخير من القرن الفائت، ساد اعتقاد أن الدكتاتوريات إلى انهيار متواصل، مع تفكك الاتحاد السوفييتي، وتحلل اشتراكيات أوروبا الشرقية. وقاربت أن تصبح في طي الماضي.

في بداية الألفية الثالثة، كانت وفاة رئيس النظام السوري الأب، وتوريثه الدولة والشعب لابنه الطبيب الشاب، الذي بدأ الحكم بتوجيه إلى الوزارات والمؤسسات بعدم رفع صوره في الأماكن العامة، مع التلويح بعهد قادم من الحريات والتكنولوجيا، وإصلاحات واسعة النطاق تشمل الدولة، ما ينعكس على مناحي الحياة السورية.

ما رسخ الاعتقاد أن هذا الشاب سيصبح من كبار رؤساء الجمهوريات، ما دام قد وضع نصب عينيه القيام بما يعيد لسوريا دورها المتقدم بين البلدان العربية، وبدا أنه سيكون المثال الأرفع للأمة، لم يكن لهذا المديح أن يكون مجاملة لهذا المنصب، وليس فيه أي استثناء، فرجالات سوريا مثل هاشم الأتاسي وشكري القوتلي وغيرهم كثير من السياسيين، كانوا قادة متواضعين حاولوا بأمانة ونزاهة، رغم أخطائهم، تقديم مثال ناصع، أحق بأن يحتذى، وتركوا أثرا طيبًا في الناس، ومضيئا في التاريخ.

ما أهله لهذا الدور، أن سمعة رؤساء الجمهوريات عادة، فوق الشبهات، لا يسرقون ولا يغشون ولا يخدعون، ما يهيأ له أن يكون رجل دولة عظيمًا، وكأن أباه لم يورثه الحكم، بل الأقدار جاءت به ليحقق انفراجا بعد ثلاثين عاما من العسف والضنك، والهزائم الحربية، واحتلال أراضٍ واستباحة المخابرات للبشر، وعيش تحت الرعب.

ما غاب عنا هو أن العالم تغير، ولم نتعرف بعد إلى العالم الذي حولنا، رجال السياسة الجدد في الغرب يرتكبون الحماقات ولا يتورعون عن الكذب، تلاحقهم الفضائح إن لم تكن السياسية فالجنسية والرشاوى.. الاتهام الحقيقي الذي يوجه لهم هو خيانة الديمقراطية واللهاث إلى أمجاد زائفة، ففي الغرب اعتبر غزو العراق وتدميره إنجازا للديمقراطية، مثلما اعتبر صدام غزو الكويت إنجازا قوميا. واليوم كما في إيران وروسيا، تتسارع المحاولات لإحياء إمبراطوريات قضى الآباء عليها، يتذرع الأبناء بإعادة الحياة إليها. هذا هو الزيف لدى سياسيين يغطون طموحاتهم السلطوية بالأكاذيب.

عاصرنا نهب الشعب في جمهوريات أفريقيا وأميركا اللاتينية، كان الرئيس عندما يغادر السلطة إثر ثورة شعبية، تسبقه إلى الطائرة علب المجوهرات وأكياس الدولارات رغم حساباته المتورمة في البنوك السويسرية

تنبه بناة الديمقراطيات بشكل مبكر إلى أن السياسيين قد يخطئون ويكذبون في معرض ممارستهم وظائفهم، فالرئاسة مجرد وظيفة، وعلى الرئيس أن يحسن ممارستها وإلا استبعد، أو سقطت عنه الأهلية، أي أنهم موظفون سواء كانوا نزيهين أو غير نزيهين، ويحاسبون مثل غيرهم، وهناك أكثر من سابقة، أحدها استقالة نيكسون، إضافة إلى استقالات لا تعد ولا تحصى من سياسيين كبار في الغرب، بعضهم تعرض لمحاكمات، وبعضهم لم تطله المحاكم بعد، ولا تلك المحاكم الأخلاقية، ولم يعاقبوا، مثل أكاذيب بوش وبلير حول أسلحة التدمير العراقية، كذلك مساومة أوباما وبوتين على الكيماوي السوري من أجل إنجاح الاتفاق النووي مع إيران.

ما ثبت هو أن المنصب السياسي لا يشكل مناعة، بل مقدرة على التجاوزات والمخالفات وربما الجرائم، وهكذا نرى بعض الساسة يغشون ويخدعون، ويكذبون.. بل ويقتلون، فلماذا يتعففون عن سرقة شعوبهم، إذا كانوا قد استولوا على السلطة بالدبابات، واستمروا بالدبابات، وخولتهم أقبية المخابرات التحكم بأقدار شعوبهم ونهب الشعب.

عاصرنا نهب الشعب في جمهوريات أفريقيا وأميركا اللاتينية، كان الرئيس عندما يغادر السلطة إثر ثورة شعبية، تسبقه إلى الطائرة علب المجوهرات وأكياس الدولارات رغم حساباته المتورمة في البنوك السويسرية؛ منغستو مريام، عيدي أمين، موبوتو، تشومبي، بينوشيه، ولا يستثنى منهم هتلر لولا الحصار، ولا ستالين لولا الموت، ومؤخرًا الرئيس الأفغاني. مشى على أثرهم زعماء عرب زين العابدين بن علي، وفات ذلك القذافي وصدام حسين. اللذين كانا من ضحايا السلطة المطلقة

حكم هؤلاء الزعماء شعوبهم بالحديد والنار، وما زال هناك كثيرون غيرهم، لا شيء يمنع من رؤيتهم يومًا ما يلهثون راكضين وهم يحملون مجوهرات زوجاتهم في طريقهم إلى المطار مثلهم مثل أي لص.

بينما في الغرب، وليس في ذلك ميزة كما نعتقد، نرى زعماء الغرب ومنهم ملوك وأولياء عهد، يركبون الدراجات الهوائية للرياضة، وقد يركبون الباصات، أو يشترون لوازمهم من الخضراوات، فهم ليسوا آلهة، لم يأتوا إلى السلطة بقوة السلاح ولا بالاغتيالات والدبابات وتصفية الرفاق في السجون، الشعب جاء بهم إلى السلطة، والشعب نفسه قد يطردهم من مناصبهم، ويلقي بهم في السجن.

عندما تدرك شعوبنا أنهم بشر عاديون، مهما كانت الأعباء الجسام التي يحملونها على عاتقهم، فهي لا تخولهم نهب شعوبهم، وإذا كان من الممكن أن يتحولوا إلى لصوص، فهم بالضرورة طغاة.

نحن في عالم بلا أخلاق، عالم من أكاذيب، في حال كانت السياسة تبرر المصالح، وتجعل لها الأولوية، ولو أنها ارتدت على الدول بالمنافع. ما يبقي السؤال قائمًا: هل يمكن بناء عالم آمن.. بالأكاذيب؟