يتابع صاحب “السوريون الأعداء” الحفر والتنقيب في بنية السلطة الاستبدادية وما أفرزته من مآس ومجازر طالت الشعب السوري اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً ولم ينج من ظلمه وظلامه معارضوه ولا مؤيدوه، حتى إن تربة البلد وجغرافيتها طالتهما الحرائق والدمار.

في آخر ما أنتجه المبدع فواز حداد نراه يؤطر وسائل القمع والاضطهاد ويتتبع تضاريس وحدود “جمهورية الظلام”. إذاً نحن في هذه الرواية وجهاً لوجه مع ضباط المخابرات وما يتعلق بهم إن كان على مستوى قادتهم كشخصية المهندس أو من يتبع لهم كشخصية المفوض، إضافة للشخصيات الثانوية التي تسهم بشكل فعال في توضيح المشهد العام.

كما كل الحكايات السورية التي صنعها الواقع خلال العقود السابقة وخاصة زمن الثورة، لن تستطيع فصل أي حكاية جديدة عن المشهد الدامي الذي ما تزال تعيشه سوريا لغاية اللحظة، فتجد الحكايات تتوالد وتكشف عن حكايا جديدة قد تبتعد عن الحكاية الأم وقد تقترب لكنها في نهاية المطاف تشكل مشهداً يكمل اللوحة العامة التي رسمها المؤلف.

في هذه الرواية “جمهورية الظلام” نجد أنفسنا مع محقق في فرع مخابراتي يتلمس بعض الطرق الخفية لإيجاد مبرر ما للمعتقلين كي يفرج عنهم وسط غابة من المحققين الوحوش الذين لم تعرف الأخلاق درباً إلى أذهانهم، ويتبدى المشهد عن حالة حذر وشك حول هذا المحقق عمن كان واسطته ليكون على رأس هذا العمل، سرعان ما يظهر السبب من خلال تساؤلاتهم: كيف لدمشقي خريج كلية الحقوق أن يكون في هذا الفرع؟

يتنامى الخط الدرامي ليدخل المشهد شاعر مخبر كتب تقريراً في قصة يتهم صاحبها بأنه يدعو إلى انقلاب على الحكم، لكن رأي المحقق الدمشقي كان مختلفاً مما أدى إلى جدال مطول بينه وبين الشاعر الذي كان بالأصل ضابط مخابرات ثم قرر أن يكون شاعراً مخبراً في اتحاد الكتاب ورغم اشتراك العميد رئيس الفرع في النقاش إلا أن المحقق استطاع بما يحفظه من أقوال الرئيس السابق أن يوقف الفصل في شأن كاتب القصة ريثما يُستشار القصر الجمهوري بتعريف الضمير، لتنبثق من صلب الحكاية حكاية أخرى، عن مهندس كان قد أُهمل فترة ثم استدعاه القصر ثانية ليحل له مشكلة تؤرق العائلة الحاكمة، والمهندس لا يحمل شهادة بالهندسة لكنه لُقب بهذا اللقب من أيام الرئيس الأب لقدرته على هندسة الحلول الأمنية والمشكلات المستعصية.

تتلخص الحكاية الجديدة بوجود أمّ على علاقة بأم الرئيس الحالي نتيجة الجوار منذ الطفولة في القرية، وقد قَدَّمت هذه الأم زوجها وأبناءها شهداء فداء للوطن ولم يبق لديها سوى واحد وتريد له منصباً يُبعد عنه شبح الموت، فيؤسس المهندس فرعاً مخابراتياً جديداً خاصاً بالأدباء بناء على مشكلة القصة التي ترمز إلى انقلاب ضد الرئيس، على أن يبقى هذا الفرع بلا عمل ولا أي نشاط وقد نُقل الضابط من قطعته العسكرية إلى دمشق ليتولى رئاسة الفرع كما نقل المحقق الدمشقي إلى هذا الفرع ليكون معيناً له.

وهنا تدخل الرواية منعطفاً رائعاً في البناء وذلك بدخول شخصية المفوض شبكة الأحداث. فالضابط الذي نُقل من قطعته العسكرية إلى رئاسة الفرع الجديد لا يفقه شيئاً بأساليب التحقيق ولا علاقة له بنوعية رجال المخابرات ويؤمن بأن هدفه في هذه الحياة هو الشهادة في سبيل الوطن بقتال مع العدو الصهيوني حصراً، ويتمسك ببعض القيم الأخلاقية التي لا يجب توافرها بأي شكل من الأشكال في رئيس فرع للأمن، ولذلك عيّن المهندس أحد الكتاب ممن لهم خبرة طويلة في القراءة وكتابة الرواية والثقافة العامة، كاتب ممن صنعته دوائر المخابرات بعد أن كان بائع مواد مهربة ثم أصبح صحفياً يُحسب له حساب، وهو صديق قديم للمهندس وقد أطلق عليه الكاتب اسم المفوض.

أما مهمة المفوض فهي ترويض رئيس الفرع ليكون رجل مخابرات، وتكمن صعوبة المهمة في إقناع هذا الضابط بضرورة تحييد هذه القيم الأخلاقية التي يؤمن بها، والقيام بتثقيفه وتطوير الحس الثقافي لديه، وهنا تدخل الرواية بسلسلة من المناقشات القيمة التي تعكس استغلال السلطة لكل جوانب الحياة بما فيها الثقافة والأدب لخدمة ديمومة العائلة الحاكمة.

يدرك المفوض صعوبة المهمة لكنه يحاول، وإذا كان قد نجح بتطوير الحس الثقافي لدى رئيس الفرع الجديد الذي أصبح يكتب مقالات باسم مستعار وصار لديه مخزون معرفي لابأس به إلا أنه على الصعيد الأخلاقي وتحويله إلى رجل مخابرات نراه يستسلم في نهاية المطاف ويعلن عجزه، وبالتالي صار لزاماً على القصر إنهاء القصة وذلك بظهور بديل عن المهندس وهو شاب من العائلة أو من المقربين جداً من العائلة يقوم بتصفية المهندس بتهمة الخيانة، ويرسل مجموعة من المعتقلين من فروع أخرى إلى الفرع الجديد لكن الحس الإنساني لدى رئيس الفرع يجعله في نهاية المطاف معتقلاً ليتم تهريبه فيما بعد مع حبيبته خارج الحدود.

الحب في الرواية
في “جمهورية الظلام” لا وجود للحب، وإن وجد فثمة الكثير من المعوقات الجوهرية في طريقه، لكن الروائي فواز حداد يلتقط حالتَيْ حب ليوظفهما بذكاء شديد في رسم اللوحة المتكاملة لهذه الجمهورية المظلمة. الأولى علاقة عارف (المفوض) مع الطبيبة الدمشقية التي قُتل زوجها في حادث سير لضابط علوي كان يتدرب على قيادة السيارة، وقام بتهديدها هي والقاضي بالقتل إن لم توقف الدعوى القضائية ضده، ومع بداية الثورة انتقلت للعمل في مشفى عسكري. في هذه العلاقة نجد الحب يتأرجح بين الهجر والوصال تبعاً لإيقاع النظام في تطييف الثورة وتطييف المجتمع بشكل حاد وذلك ليضمن بقاء دعم الطائفة له .

وكذلك في العلاقة الثانية نجد رئيس الفرع يعشق فتاة محجبة تبقى مخلصة وداعمة لمواقفه الأخلاقية بما يُشكل له درعاً وقائياً في وجه العنف والقذارة المتفشية كما شكل لها درعاً يحميها من المجتمع ومن الشبيحة الذين طغوا وتجبروا على الشعب السوري برمته. ويبقى الحب في زمن الكراهية والتطييف محافظاً على براءته.

لقد شكّل الحب في هذه الرواية ملامسة صريحة للبعد الطائفي الذي يحاول معظم الكتاب تجاهله والخوض فيه، فإذا كانت الطوائف المتباينة في زمن السلم والعدالة تشكّل حالة غنى للمجتمع فإنها في زمن الحرب وسيلة تدمير وتفتيت للوطن برمته.