كتاب “ضمير المتكلم” للكاتب والناقد محمد منصور
باكراً في مقدمة دراسته المعمّقة لرواية “السوريون الأعداء” للروائي السوري فواز حداد، يُرسي الكاتب والناقد محمد منصور رؤيته النقدية الكامنة وراء سبر أغوار الرواية قائلاً إنها “ليست محاولة للتفسير أو الشرح بل مقاربة تستهدف إثراء وجدان القارئ وتعميق إحساسه بطروحات الرواية في إطار منهج تحليلي يقرأ بنية الخطاب ويدرس عناصره وسماته وقيمه الموضوعية وجمالياته الإبداعية”.
كلمات سيتردّد وقعها الأشبه بالبيان في مجمل صفحات الدراسة الـ 150، ابتداءً حتى من اسمها غير التقليدي (ضمير المتكلم) وذلك في مجهود استثنائي يتفرّد في تشريح دلالات تقنية سرد الأحداث بما يتناسب والمكانة التي حازتها رواية “السوريون الأعداء” في الأدب السوري الحديث.
لا تقف الدراسة عند ذلك بل تتحرى سمات المواجهة التي خاضتها الرواية مع الحالة الطائفية من خلال دراسة ضمائر السرد وبنية الشخصيات الروائية وانتماءاتها ومحاور الصراع الدرامي وتجلّياته في سياق الحدث الروائي العام الذي يقوم بدوره على حالة مواجهة اجتماعية تقودها السلطة لعل الممارسة الطائفية هي القاعدة والحالة الوطنية هي الاستثناء.
وكذلك تتوسّع بمناقشة وتحليل عوامل تماسك الحالة الطائفية في سوريا كما شخّصتها رواية “السوريون الأعداء” فهي تسبر أغوارها وتصوّر طبيعة تموضعها وأنماط صراعاتها روائياً سواء داخل بنية الطائفة نفسها أو مع باقي مكوّنات المجتمع السوري.
تقنيات السرد وأشكال حضور الراوي
ومما لا شكّ فيه، نالت تقنيات السرد نصيباً وافراً من التحليل المعمّق وما كان اختيار عبارة “ضمير المتكلم” عنواناً للدراسة إلا صدى لذلك المجهود. وفي هذا الباب، يفصّل الكاتب محمد منصور في ثالث فصول الدراسة الفروق بين نمطي السرد الموضوعي (الراوي كلي المعرفة) والسرد الذاتي ( الراوي جزئي المعرفة) اللذينِ استخدمها حدّاد في الرواية، ويتوسع في تحليل القيمة المضافة من استخدامهما معاً ودلالات كل منهما على حِدة.
ويرى منصور أنه بفضل ذلك التشابك تحوّلت بنية السرد في “السوريون الأعداء” إلى مزيج فريد من تأملات سيرة ذاتية مفترضة وسرد موضوعي عام، لتسهم في تشكيل الرواية وإغنائها، ولا سيما أنها تغدو ضرورة في ظل الطوفان الهائل من الوقائع والأفكار والتأملات التي ترسم العالم السوري المأزوم، يضاف إلى ذلك إسهام ذلك التشابك في بلورة رؤية الكاتب إزاء حساسية تأثير خطاب كل راوٍ على المتلقي.
محاور الصراع الدرامي
وبالحديث عن الصراع، يميّز منصور في دراسته 3 محاور كبرى حملتها رواية “السوريون الأعداء”، يتمثل أول تلك المحاور في الصراع بين الممارسة الطائفية من جهة وقيم المشاركة الوطنية من جهة أخرى، فيما يضع المحور الثاني قوة القانون النظرية في مواجهة مباشرة مع سلطة أجهزة المخابرات الفعلية، أما ثالث تلك المحاور وأعمقها فيتناول الصراع بين قدسية الله وقدسية حافظ الأسد.
ويجادل الكاتب بأن “فواز حداد” أسّس للصراع الطائفي كحجر زاوية لكل الصراعات الدرامية في الرواية، بينما يفتح الصراع بين الطائفية والقيم الوطنية الباب واسعاً أمام نهج الفساد والمحسوبية الذي رسّخه نظام الأسد على مدى عقود لتغدو جزءاً من تكوينه.
غير أن الصراع الأكثر إثارة، وفقاً لمنصور، يبقى صراع التأليه ومحاولة جماعات من العلويين إحلال حافظ الأسد مكان الإله ليكون بذلك “الله هو المطلوب رقم واحد لدى أجهزة المخابرات السورية” وتتحول عبارات من قبيل حلّك يا الله حلّك .. يقعد حافظ محلك” و”قائدنا من القرداحة بيعطي على الله لاحة” إلى تعبير عملي عن هوَس طائفي يحاكي العبودية المطلقة لله عز وجل.
دراما الزمان والمكان
أما حركة الزمن التي تربط الأحداث وترسم تطورات محاور الصراع فإنها بمقدار ما يمكن أن تغدو موضوعاً من الموضوعات التي تعالج الرواية إشكالاته، فهي جزء من حركة السرد في الوقت نفسه، أي إنها أداة تقنية تسهم في تعدد مستويات السرد، وتدفع القارئ إلى التفاعل مع بنية الزمن وحركته، مستحضراً مخزون ذاكرته إزاء المرحلة التاريخية التي تدور فيها أحداث الرواية، ولا سيما إن كان سورياً.
لم يفُت منصور كذلك تحليل دلالات الأماكن وأبعادها الدرامية وقيمها الرمزية، ولا سيما حماة وتدمر ودمشق، حيث تدور أبرز أحداث الرواية، ومن هذا المنظور يرى أن فواز حداد قد اختارها كمسرح لأحداث المواجهة الطائفية في (السوريون الأعداء)، التي عَنِيت برصد أثر هذه المواجهة على بنية الأمكنة من جهة وبنية الصراع اجتماعياً ووطنياً من جهة أخرى.. فحلّلت بجرأة وتبصّر شكل حضور البشر في علاقتهم بالمكان، وكيف أسهمت ثقافة امتهان حقوق الإنسان وسحق كرامته، في تحويل الأمكنة إلى صورة من صور الجحيم.
ويَعتبر منصور أن حماة تُمثّل بلا شك نموذجاً للتجريم الجماعي العشوائي الموجَّه ضد السوريين من قبل نظام أسد، في حين أن العنصر الدرامي الأساس في فضاء سجن تدمر، ليس القسوة والتوحش، ولا الموت الرحيم أو الموت العسير.. بل هو الفصل العميق والحاد بين الداخل والخارج، بين عالم نعرفه وعالم لا نتخيل وجوده، بما يجعل هذا الفضاء المكاني الموغل في القسوة البيئة المثالية لحالات الاغتراب النفسي.
أما في مرآة دمشق، فتتجلى مركّبات عقد النقص الطائفية في أجلى صورها، ليس على شكل مجازر وإعدامات وانتقام متوحش كالذي جرى في حماة، بل على شكل علاقات اجتماعية متداخلة المستويات متعددة الأبعاد.. وما ادّعاء (لميس) أنها دمشقية الأصل، سوى اختبار درامي لعلاقتها بالنقيب العلوي، ولعبة افتراضية تكشف رؤية العلوي بوضوح لدمشق ومجتمعها.
هذه الصورة التي يرسمها العلويون لدمشق انطلاقاً من عُقَد نقص واستحواذ شخصية وجمعية في آن، سرعان ما تتسع ملامحها وأبعادها، حين تندلع الثورة التي تهدد بقاء النظام، هنا تمضي الرواية إلى الفضاء الاجتماعي الأوسع، فضاء العلاقة مع السوريين ككل.
وفي سياق الحديث عن المكان أيضاً، يستفيض منصور في الحديث عن “القصر الرئاسي” حيث تتصارع فضاءات ثلاثة: هي مزيج من الدسائس والوشايات، مع مزيج من اختزال المؤسسة الرئاسية بشخص الديكتاتور، ثم البحث عن تأليهه بعد أن تصبح صفة الديكتاتور حالة بشرية غير قابلة للخلود ينبغي تجاوزها، لاستبدال حالة الولاء السياسي بالعبودية المؤلِّهة.
سليمان المهندس وحافظ الأسد الماكر
في داخل القصر تحضر شخصية حافظ الأسد، رأس هرم تلك المنظومة الإجرامية، لكن ورغم الموقف النقدي المعارض لفواز حداد من نظام الأسد، فإن تعامله مع شخصية مؤسس هذا النظام، واستحضاره كشخصية روائية هنا، لم يتأثر بموقفه المعارض هذا لتكون تلك الشخصية وفقاً لمنصور بمثابة الاختبار الفني والموضوعي الحقيقي لتعامل الكاتب مع شخوصه، ولاستقلالية الراوي الموضوعي في أداء مهمته، بعيداً عن المؤثرات المباشرة لقناعات الكاتب السياسية.
وبحسب منصور، فقد عمد حداد إلى تقديم شخصية حافظ الأسد بوجوه متعددة، ولم يكن يعنيه أن يكون خارق الذكاء، بل ركز على قسوته الناتجة عن الجمود، وميّز بين الذكاء والمكر في شخصه كديكتاتور.
لكن تبقى شخصية سليمان “مهندس الكراهية” أغنى شخصيات الرواية وأكثرها إثارة على الإطلاق يوازيها من الشخصيات النسائية شخصية لميس الوصولية التي تمثّل صورة جيل وتتنكر لأصلها الريفي العلوي وتدّعي أنها دمشقية.
أما عن باقي شخصيات أبطال الرواية ممن يمثلون السواد الأعظم من السوريين فيرى أنهم على الغالب مُتعَبون ومهزومون مهما بلغوا من قوة ومهما تدرّجوا بالرتب والمناصب، ذلك أنهم في النهاية يمثلون حالة الصراع الطائفي التي أنهكت المجتمع السوري ودمّرت بُناه وسحقت الكثير من مدنه، وكانت حماة هي الشاهد والشهيد، التي انطلق منها فواز حداد، وأولاها هذا الكتاب النقدي المهم نفس الاهتمام الذي انطوت عليه في (السوريون الأعداء),