فوّاز حداد، بين روائيي جيله السوريّين، يكاد يكون الأكثر تكثيفاً ورصّاً وعملاً على بناء الرواية. في روايته “صورة الروائي” (رياض الريس للكتب والنشر) لا يخرج عن ذلك، بل هو يُمعِن فيه. مثل أكثر روائيّي جيله، يبني حداد روايته على السياسة، بل تكاد السياسة أن تكون صفحتها المقابلة، فالرواية لا تني ترتدّ إليها، بحيث أنها تبدو قراءات سياسية متراكبة.
السياسة هنا بما هي أحداث مرحلة من التاريخ العربي الحديث، التاريخ الذي يبدأ مع صعود الناصرية، ليمرَّ على الوحدة المصرية ـ السورية، ليعود إلى تاريخ حزب “البعث” في سورية والعراق، وليستعيد أحداثاً متواقتة من الأردن والسودان والمغرب. أحداث متقاربة في الزمن وجميعها، بعضها مع بعض، تُشكِّل مرحلةً من التاريخ العربي المعاصر، قد تكون مرحلة الاندفاع والحماسة والتوقُّد القومي، قد تكون بذلك مرحلة ذهبية أو تأسيسية لم تلبث أن أظهرت وجهها الآخر، السقوط والانحدار المتفاقَمين.
رواية فوّاز حداد تعود مباشرة إلى هذه الأحداث بل تبني عليها، بحيث تبدو هذه أساساً واقعياً لرواية لا تلبث أن تبني عليه ما يبدو مقابلاً رمزياً له. نحن إزاء تاريخ مباشر خلاصته صعود الناصرية و”حزب البعث العربي الاشتراكي”، لكن هذا التاريخ في سبيله إلى أن يتحوّل إلى رواية، تحوُّله ذاك هو تقريباً موضوع رواية حداد.
تعود الرواية مباشرة إلى أحداث تاريخية وتبني عليها
هنا ننتقل إلى صعيد تخييلي رمزي، فالتاريخ بوجود أحد صانعيه، “صباح القدوري”، سيكون كلّه وبمسرحه جميعه موضوع رواية يكتبها الراوي الذي لا يلبث أن يُفاجَأ بأنّ ثمّة رواية أُخرى يكتبها روائي آخر هو “س” تكاد تكون روايته نفسها. البطل هو نفسه، والمحور الذي هو التحقيق هو نفسه في الروايتين، وللبطلين الاسم نفسه. الروائيان يلتقيان في التلفون ولا يلتقيان في غير ذلك، حتى حينما يتوافقان على لقاء يأتي الراوي الأول، لكن “س” لا يأتي.
لا نخطئ إذا قلنا إنّ رواية “صورة الروائي” توعِز طوال الوقت بأنَّ الروائيَّين واحد، بل لهما الحياة نفسها، فكلاهما على علاقة بهدى ابنة القدوري. الروائيان يقرآن على التلفون، كلٌّ من روايته فصلاً بعد فصل، هما يكتبانها بالتدريج، ولا يلبث أن يظهر أن الروايتين تصلان إلى المحطّة ذاتها وتقفان عند المحطّة قبل النهائية، بحيث يقترح أحدهما، (س)، أن يوحّدا الروايتَين وأن تكون لهما ذات النهاية وذات القوام.
إذا اعتبرنا أنَّ الأحداث التاريخية التي تُغطّي مرحلةً كاملة على الأرض العربية، إذا اعتبرناها الرواية الأولى، فإنّنا نجد أنّ الرواية الثانية هي التحقيق الذي هو محور الروايتَين اللتين تقومان، بطريقة ما وبإيحاء دائم، باستعادة مقصودة، وان تكن مواربة لتاريخ المرحلة. الروايتان اللتان هما في الحقيقة واحدة، في تسلسلهما فصلاً بعد فصل وتقاربهما إلى حد الوقوف، ما قبل النهاية، على حافة الاندغام.
هما في هذا التطوُّر رواية ثانية داخل الرواية الواحدة. لكنَّ الأمر لا ينتهي عند هذا الحدّ؛ فثمّة رواية ثالثة هي رواية القدّوري وابنته هدى وروائيّين، ولهذه أيضاً مسارها الذي يُشعِر، شيئاً فشيئاً، باندماج الشخصيات الثلاث، الروائيين والقدّوري في واحد حيال هدى التي هي الطرف الثاني في ثنائي يشمل الروائيَّين، كما يشمل والدها. هكذا تبدأ رواية فوّاز حداد بالتاريخ المباشر لتبني فوقه طابقَين روائيَّين، هما من تحوّل الواقع المباشر إلى الرواية، ثم تحوّل الرواية في ذاتها إلى نوع من رواية الرواية، أي الرواية الخالصة.
يصل اللعب الروائي إلى أقصاه والرواية لجميع احتمالاتها
إنَّ ما يظهر هنا هو تحوُّل التاريخ المباشر إلى تحقيق، هنا يطل كافكا الحاضر بقوّة في الرواية، فالتحقيق هو أيضاً “محاكمة”، وهي أيضاً على ذنوب لا اسم لها، لكن الذنب ماثلٌ في ما لا ينمّ ظاهره عنه، الذنب الأكبر في الرواية هو النسل، ولا نعلم أن الاستبدادات العربية تطرقت إلى هذا الموضوع أو حاسبت عليه، لكنه الذنب الكافكاوي الحاضر دائماً بدون تعيين. هذا التذنيب يصل إلى مناح غريبة كالرقابة الأمنية على الاتصال الجنسي. هنا نجد إلماحاً إلى الاستبداد العربي الذي يشمل كلّ ما نسمّيه الخصوصية والحياة الشخصية. إنه استبداد لا يقف عند السياسة فهو استبداد أيديولوجي وتوتاليتارية شاملة لا تحترم أي خصوصية أو أي حياة شخصية.
هكذا تبدو رواية فوّاز حداد بناءً مرصوصاً من روايات كثيرة، تتقلَّب بين التاريخ الواقعي والمقابل الرمزي والمقابل الروائي. هذا التقلُّب من الواقع الخبري إلى الصياغة الروائية يتمّ على دفعات، وفي كل واحدة منها تتصفّى الرواية من الأساس الإخباري لتبني عليه، أكثر فأكثر، فناً وبناءً رمزياً. بل إنَّ رواية فوّاز حداد تذهب بعيداً في ذلك بحيث لا نستطيع أن نقبض على نهاية واحدة، إذ يبدو الدرس الروائي هنا كاملاً، فالرواية تذهب إلى عدد من الاحتمالات الروائية تتركها جميعها مطروحة بدون أن تقطع فيها أو تجزم بواحدة منها. يصل اللعب الروائي هنا إلى أقصاه وتغدو الرواية معروضة بكل فنها واحتمالاتها، فنحن هنا بين اللعب الروائي والنظرية الروائية. هكذا تبدو اللعبة بارزة مطروحة، كما يغدو التاريخ لعبة وفناً ورموزاً.