حسب بعض المؤرخين، بدأ القرن العشرون عشية الحرب العالمية الأولى، وانتهى بتفكك الاتحاد السوفييتي. كان ما قبله وما بعده، لا يزيد عن وقت مستقطع من سلام مخادع، لا يعد في حساب التقلبات السياسية، والانهيارات الكبرى، أكثر من سنوات خمول وركود، أحرزت بعض التقدم والكثير من الرفاهية والتسلية بظهور السينما في بداية القرن الماضي، وانتشار استهلاك المخدرات في نهايته. ثم عاود التاريخ دورانه العتيد مع ضربة نيويورك وإسقاط برجي التجارة العالمية بعملية إرهابية مروّعة.
في عرف السياسة، لا يمكن إعادة تشكيل العالم إلا بالحروب، لذلك كان القرن المنصرم حافلاً بالتحولات، وبقدر ما كانت استثنائية ولافتة، كانت بغيضة ومؤلمة. شهد العالم انهيار إمبراطوريات، وحربين عالميتين، ما أتخم القرن بالأهوال والويلات، كان للمطامع الاستعمارية نصيب، وللفاشية والنازية والستالينية نصيب، حتى الحرب الباردة في أوروبا، ارتدت ساخنة في القارات الأخرى. الحصيلة، رزوح دول أوروبا الشرقية تحت وطأة حكومات شمولية تعاملت مع شعوبها بالقهر والصمت. من جانب آخر، لم تفلت الإمبريالية من أزمات الكساد والإفلاسات.
سيعيد الأدب والفن النظر إلى العالم تحت تأثير انهيار عالم أصبح قديماً، ويشكل المعارضة الحقيقية لما حفلت به المتغيرات من همجية ووحشية، وسوف تُظهر الرواية قدراتها على التعبير عن أهوال القرن وأهوائه وأزماته، تجلت في هجاء الحروب، ودحض جشع التمدد الاستعماري، والتشهير بالأيديولوجيات المغلقة، ومناصبة الشموليات العداء.
تتردد أصداؤه في القرن الحالي وقد لا تنتهي بنهايته
ومثلما أنتجت نوازع السيطرة جنوداً مدججين بأسلحة فتّاكة، كذلك وعلى الضد، لم يكتف أدباء وفنانون وفلاسفة وسينمائيون، بتسجيل خسائر الإنسانية، عاشوا عصرهم وخاضوا غمراته، توغلوا فيه وكشفوا عنه، وشكلوا حركة مقاومة لانحراف قرن كان مبشراً بانتصارات العقلانية والحداثة، وصناعة المتغيرات الكبرى في تاريخ البشرية.
كتب غونتر غراس “الطبلة الصفيح”، وروبرت موزيل “رجل بلا صفات” وهاروسلاف هاشيك رائعته “الجندي الطيب شفيك وما جرى له في الحرب العالمية”، وقسطنطين جورجيو “الساعة الخامسة والعشرون”، وكشف جورج أورويل عن طغيان الحكومات الشمولية في روايته الرائدة 1984. ومن روسيا الغارقة في مستنقع الستالينية خرجت رواية “الدكتور جيفاكو” لبوريس باسترناك، ورواية المنشق سولجنتسين “جناح السرطان”.
الظاهرة الأوسع تأثيرا، كانت نشوء الحركات الاحتجاجية، وتجليها في الحركات الأدبية المتمردة كالتكعيبية، والدادائية، والسوريالية، ومسرح العبث، واللامعقول. وازدهار أدب الرفض على يد ألبير كامو، وظهور الوجودية وتأكيدها على حرية الفعل لدى الإنسان. وسيطرح كافكا التساؤل الإنساني عن لغز الوجود في رواياته وقصصه القصيرة، ولم تقصر السينما في وضع علاماتها المؤثرة، فكانت أفلام شارلي شابلن، والتعبيرية الألمانية في “عيادة الدكتور جاليكاري”؛ أو في حركة الفن المنحط، ويجسد بيكاسو في “غيرنيكا” مأساة الحرب الأهلية الإسبانية، ويعبر القرن عن نفسه بقصيدة “الأرض اليباب” لإليوت.
قبل انتهائه، وضع القرن العشرون حجر الأساس لما سيأتي، كان في توريط الدين في حرب أفغانستان لإخراج السوفييت منها، ما اصطنعه الأميركان نفضوا أيديهم منه. فكان القرن الحالي امتدادا له، ما زرعه الذاهب، سيحصده القادم، وإن لاح في بداياته مبشرا بمستقبل بدا حافلاً بالكشوف العلمية؛ ثورة الاتصالات تربعت ذروة واعدة بالفتوحات، كانت المؤشر على عالم آخذ بالمتغيرات السريعة، ما أطلق الخصوصية من عقالها، وما كانت بداياته في الستينيات في الثورة على التزمت، أثمر قبل نهاية القرن تحلّلاً جنسياً، وانطلاق عملية تحرّر المرأة والاعتراف بالمثلية. وفي الوقت نفسه، أسس لوضع البشر تحت الرقابة. ما أدى إلى ازدهار أدب الديستوبيا تحت تأثير رواية أورويل.
سيضبط الإرهاب القرن الواحد والعشرين، الذي سجل ضربته الناجحة في نيويورك؛ وسوف تتخذه الدول الكبرى ذريعة للحروب بزعم القضاء عليه، بينما الهدف القضاء على أي تغيير في توازن القوى، ويتعمدون معالجته بقصف الطائرات والمدافع، بدلاً من التحرّي عن أسبابه، مع أنها معروفة. ما سوف يسهم في عودة الديكتاتوريات. سيتقدم القرن على إيقاع الإرهاب، بعدما عثرت الدول الكبرى والإقليمية على حوافز لاستئناف الحروب، فاستغلت التناحر المذهبي أيضاً لمآربها. وسوف يكون أول ضحاياها، الربيع العربي.
وهكذا ما زال القرن الذي مضى، تتردد أصداؤه في القرن الحالي، وقد لا تنتهي بنهايته.
-
المصدر :
- العربي الجديد