يحظى الكُتّاب بالاهتمام مثل غيرهم من المشاهير، وإن لم يكُن بالقدر نفسه؛ فالزعماء التاريخيون ظفروا بما ما يفوق الإعجاب من جماهير تملأ الساحات، طوعاً أو قسراً، أعدادهم مئات الألوف، وإذا كانت لم تبلغ الملايين، فلأنّ الساحات لا تسع. أمّا الإعجاب الكبير، إلى حدّ الغرام، وأحيانا المدوّي، فللمطربين والموسيقيّين والرياضيّين، أضافت إليهم السوشل ميديا أنواعاً جديدة من مروّجي المحتويات المتنوّعة.

هؤلاء جميعاً يحاولون دائماً مضاعفة الذين يلاحقونهم بالتصفيق والهتافات، والسعي لمعرفة كلّ شيء عنهم، عادةً لا يبخلون عليهم بالمعلومات، سواء كانت صادقة أو كاذبة، ويتعمّدون أن تكون مثيرة، كي لا يُهدَر شغفهم على شخصيات لا يستحقّ الحصول منهم على تواقيعهم والتقاط الصور معهم.

بالنسبة إلى الكُتّاب، لم يقلّ الشغف بهم عن غيرهم وإن كان العدد أقلّ، لكنه نوعي، فإضافة إلى القرّاء، هناك النقّاد ومؤرّخو الأدب والمفكّرون وحتى السياسيّون. يرغب القراء في معرفة كلّ صغيرة أو كبيرة عن شخصياتهم وحياتهم، فهم لم يكسبوا الشهرة لأنّهم أناس عاديون، بل حصلوا عليها بفعل التميّز، ربما استمرّ بضعة أجيال، أو أكثر.

يعتقد بعض الكتّاب أنه ليس عليهم أن يكونوا مبذولين للناس، فالروائي الفرنسي فلوبير مثلاً يعتقد أنّه ليس على الكاتب أن يترك أثراً عنه إلّا أعماله، أمّا حياته فليست على قدر كبير من الأهمّية. ويجد بروست أنّ ما يُراد معرفته عن الكاتب لا يفيد، بل يمكن أن يُضلّل القارئ. كذلك تشيخوف يقول إنّه عندما يقرأ كتاباً، لا يهمّه كيف أحبّ مؤلّفوها أو لعبوا الورق، فهو لا يهتم إلّا بأعمالهم الرائعة.

رأى بروست أنّ ما يُراد معرفته عن الكاتب لا يفيد، بل يمكن أن يُضلّل القارئ

ما الذي يهمّ القارئ أكثر، أعمال الكاتب أم معرفة أنّ الكاتب مؤمن أو ملحد، طبيعي أم مثلي، بخيل أو كريم، الغراميات التي خاض رحاها، تخلّي النساء عنه، اضطهاده معشوقاته، معاناته من الخوف، موته من الجوع والبرد، طقوس الكتابة، الملذّات التي تمتّع بها؟ هذا كلّه وغيره يسعى بعض الكتّاب لحجبه عن الآخرين، وغالباً استثماره، أو تزويره.

حسب ما يزعم عن تسويغ هذا الفضول، تفسير عبقرية الكاتب، مع أن ستيفن زفايغ قال إنّه لا يمكن تفسيره، عندما حاول البحث عن أسباب إعجابه ببلزاك، فلم يجد شيئاً ذا بال في شخصيته يستحقّ الإعجاب، وهذا ما حزّ في نفسه. أمّا بروست فكان معجباً ببلزاك، مع أنّ ما عرفه عنه بالاطلاع على مراسلاته أنّه كان رجُلاً سوقياً. هذا التشنيع على بلزاك يطاول بروست نفسه، الذي أطلق عليه أحد الكتّاب “الحشرة المقيتة”، وتساءل: كيف يمكن لربيب المجتمع الراقي الذي لا يُطاق أن يكون هو مؤلّف “البحث عن الزمن الضائع”؟

الملاحَظ، اليوم، أنّ المقابلات مع الأدباء على قدم وساق، ما يمنح الكاتب فسحة للتعبير عن نفسه، وأن يُصبح حديث وسائل الإعلام والتواصل والأصدقاء والأصحاب والمعجبين. ويستغلّ أيضاً جهود المصوّرين في التقاط صور أمامية وجانبية، مُعدَّة بشكل لافت، تُظهره بعينين تخترقان الحجب، عادة تكون من تصميمه ونصائح المصوّر الخبير، ما يُسهم في إعطاء انطباع عنه، مثالي وربما خارق، وإن كان غير حقيقي.

بات الكاتب يصنع صورته طبقاً لأنموذج لافت، يعرف أنّه معرض للنظر، فيمنح قرّاءه صورةً تروق له ولهُم.

هناك جوانب من حياة الكاتب لا يمنحها لأحد، مهما حاول التخفّي عليها تَظهر في كتاباته، وإن كان بطرائق مخادعة، كما في علم النفس، أي بعكس ما هي عليه، أو يُلصقها بالآخرين، أو بالتلميح إليها، وغالباً بالمزج بين الحقيقة والكذب، المتخيَّل والواقعي، وربما كان يُخفي رذائله ومباذله، أو يكشف عنها على إنّها إنجاز في الصراحة، فيسوطنا بها على أنّها نقاط قوّته.

أمّا إذا أردنا معرفة الكاتب على حقيقته، فحسب هنري جيمس، إنّ الفنّان بأكمله موجود في أعماله ولا شيء غير ذلك. أمّا بشأن حقيقته العارية، فلن نعرفها أبداً، خاصّةً هؤلاء الذين يزعمون أنّهم صوت الحقيقة، بينما ينشرون الأكاذيب حول أنفسهم. لا بدّ من الإشارة إلى أنّ ما سبق قوله، لا يمكن تعميمه على الجميع، وإلّا لم يمثّلوا عظمة الكتابة، ولنتذكّر هناك من مات على المحرقة صوناً للحقيقة.