“تفسير اللاشيء” حكايات صغيرة منثورة بين طيات الرواية تحضر في سياق المأساة الكبرى التي تمرّ بها سوريا والتي شكّلت تفاصيل من خارطة الدمار المعمّمة.
الاثنين 2020/03/16
الكثير من الروايات السورية التي كتبت عن الحرب الدائرة رحاها في البلاد كانت متسرعة، أو انفعالية، لم تقرأ المشهد بعمق، ولم تستطع تفكيك ما يعتمل في دواخل الذوات التي تجابه دمار الاقتتال والموت، لكنْ في المقابل هناك أعمال أخرى حاولت أن ترصد ما يحدث من زوايا خفية، ومن بينها رواية “تفسير اللاشيء”.
يمضي السوريّ فوّاز حدّاد في روايته “تفسير اللاشيء” في الإحاطة بمفارقات من الحياة السوريّة في ظلال الحرب التي تكاد تكمل عقدها الأوّل، ويصوّر كيف بلورت أحداثها المأساوية، وتداعياتها الكارثية حيوات الشخصيات التي وجدت نفسها سجينة واقع موحش لا يرحم.
يقر الراوي الذي يبقي نفسه محتجباً ومجهول الاسم، بداية أنه ليس ثمة ما هو خارق في ما سيرويه، فالأشخاص حقيقيون، والقصة واقعية رغم ما خالطها من أوهام وتخيلات، ويبدأ بسرد حكاية أستاذه وصديقه عبدالحميد صاروف الذي يغرق في عتمته الداخلية ومتاهته النفسية، مشهراً موقفه من العالم بطريقته الخاصة بالاحتجاج والتمرّد.
بطل متفلسف
يختار صاروف بطل رواية “تفسير اللاشيء”، الصادرة عن منشورات الريس، بيروت 2020، أسلوبًا عدميّا في مواجهة الواقع وفجائعه، يقرّر التحوّل إلى شيء، أو إلى لاشيء، يكون التشيّؤ ونقيضه من وسائله المساعدة له على التكيّف مع حياته التي تنحو نحو القسوة أكثر فأكثر، ولا ينقذه التفلسف من الضياع، ولا من النهاية الوحشية التي يسير بجنون إليها..
العدمية عند صاروف تتحوّل إلى نهج حياتيّ، وأسلوب عيش، ذلك أنّ الوجود بحدّ ذاته يتحوّل إلى آفة ينبغي عليه التكيف معها، حيث يشعر بالخيانة من كلّ ما ومن يحيط به، وبخاصة من زوجته سهير التي تفتح له بوابات العدم ليغرق فيها بسرعة جنونية، حين تقرر أن تنفصل عنه، وتنقذ نفسها من ورطته.
يتفلسف صاروف باحثًا عن سبيله في حياته، باحثا عن أفكار غرائبية تنتشله من منفاه الذي يعيش في أتونه، المنفى المكاني الذي يقسو عليه، مكانه الذي يفترض أنّه بيته ووطنه، يتحوّل إلى منفى قاهر مدمّر بالنسبة إليه، يغرّبه عن ذاته، يفصله عن محيطه الاجتماعيّ، ويلقي به في دوّاماته الخاصّة من دون أن يتمكّن من إيجاد طريق للتصالح مع الخراب الذي استشرى بطريقة لا ينفع معها أي علاج أو دواء.
مواجهة الواقع وفجائعه
التفكير بسهير الهاربة من قفص الزوجية يقود صاروف إلى هاوية اليأس والجنون، يخرجه عن طوره، يجعله نزيل وساوسه القهرية التي تفصله عن واقعه أكثر، تعزله عن بيئته، ترغمه على البدء بوضع تعريفات جديدة للأشياء من حوله، بحيث يسبغ عليها صفات وينزع عنها أخرى، في لعبة الوجود والعدم، أو الشيء واللاشيء، التي يغرق في ثناياها.
يصوّر حدّاد كيف أنّ هناك محطّات مفصلية في حياة الإنسان، تخرجه من طور لآخر، وتتسبّب بضياعه، أو خلاصه، كهروب سهير الذي يفتح أمام بطله أبواب التغلغل في داخله، والغوص في أعماقه أكثر، واستعراض سيناريوهات غرائبية عن أسباب الهروب الذي أربكه وشتّته ووضعه على خطّ التحوّل من شخص إلى شيء، ومنه إلى لاشيء.
حكايات صغيرة منثورة بين طيات الرواية تحضر في سياق المأساة الكبرى التي تمرّ بها البلاد، والتي شكّلت تفاصيل من خارطة الدمار المعمّمة التي لم تستثنِ أيّ مكان في الجغرافيا السورية منها، كحكاية الطفل الذي انهال عليه الشبيحة المجرمون بالضرب بالأرجل، وقتلهم له في قلب دمشق القديمة، كأنّهم يقتلون من خلاله الأمل والمستقبل معًا، أو يشوّهون واقع دمشق وتاريخها بهذا الفعل الوحشيّ.
تحضر في الرواية كذلك صور من الفساد الذي استشرى أكثر فأكثر في جميع مناحي الحياة ومفاصل الدولة، وكيف أنّ الجامعات والمدارس أصبحت سجونا خربة لا يمكن أن تساهم بتأسيس أجيال قادمة، ولا تبعث على أي أمل في المستقبل، وتحتّم الرثاء وتفرض البكاء لأحوالها المأساوية.
اللجوء إلى الفلسفة لا ينقذ صاروف من لعنة الحرب المستعرة في البلاد، بل يورّطه أكثر في البحث عن صياغات لترقيع المآسي بالكلمات والمفاهيم والمصطلحات والرموز، كأن يلغي الواقع أو يتخلّى طوعا عن كينونته لصالح التحوّل إلى شيء، تمهيدا للتخلّي عن حالة الشيئية نفسها، وصولاً إلى اللاشيء الذي يغدو مراده ومرتجاه. يتحدث عن نهاية التاريخ بمفهومه المختلف، الخاصّ به، وعن سموم التاريخ ولوثات الفكر والواقع.
نهاية محتومة
الجراح النفسية الغائرة التي تنتجها الحرب ترسم أخيلة الشخصيات التي تكون ظلال الأشياء، أو هياكل يراد لها أن تكون مجوّفة من أيّ إحساس، تنقلب المفاهيم ويختلط سلّم القيم، بحيث تكون المتاجرة بالشعارات والقيم ضربا من ضروب تقديم الولاء وتلافي العقاب المنتظر، وتكون المبالغة في تحميل الآخرين مغبّة الفجائع التي تئنّ تحتها البلاد، جزءا من لعبة التجرّد من المسؤوليات والأخلاقيات المفترضة.
الراوي الحائر في واقعه، يصف حيرة صديقه ويغرق في لعنة الحب والصداقة مع سهير، يقع في فخّ أفكار صديقه تارة، وفي قيد فتنة سهير وجمالها تارة أخرى، ويحاول المكابرة على حبه وكبته وتكبيله بمشاعر الواجب والمسؤولية تجاه الآخرين، مجاهدا للهروب إلى الأمام، ورافضا الإقرار بحالته، يبقي نفسه على الهامش، ويفضّل الاستمرار في ظلّ صاروف وعتمته الطاغية.
سهير بدورها تكون نموذجا لشخصية المرأة التي لا تستدلّ إلى بغيتها، تتعلق بأستاذها صاروف، تنأسر لأفكاره الغرائبية وتنسحر بفلسفته الحياتية وانفتاحه، فترتبط به، لكنّه يفقد مع الأيام سحره المؤثر عليها، ويبدأ بالانكشاف لها، فتبتعد بنفسها عنه رويدًا رويدا، وتكتشف أنّها كانت تخدع نفسها بالحبّ ومزاعمه وتخيلاته، وأنّ الحبّ المنشود يقبع في مكان آخر، قريب منها لكنّه يتجاهل ويكابر.
بطل الرواية يتفلسف باحثا عن سبيله في حياته وعن أفكار غرائبية تنتشله من منفاه الذي يعيش فيه
يسلّط حدّاد بعض الأضواء على واقع الفنّ في سوريا في ظلّ الحرب، وذلك من خلال شخصية الفنان الوصولي الذي يتودّد لسهير ويحاول إيهامها بالحب، باعتبارها موظفة مسؤولة في وزارة الثقافة، ويبرز من خلاله كيف أنّ سوق الفنّ تأثّر بشكل كبير، وكان أحد ضحايا هذه الحرب بدوره، ولعبة بعض الفنانين بالتحايل على أنفسهم وجمهورهم، بتأويل بعض الأعمال تأويلات مختلفة تساير مزاج الآخر كلّ مرة، وقد تعبر عن الشيء ونقيضه، بحيث تمنح صاحبها مهرباً لتمثيل دور بائس أو جني ثمار مأمولة، معنوية متعلّقة بالتقدير والاعتبار أو مادية تبحث عن مكسب في ركن البيع والشراء.
لا تكون النهاية التي يختارها فوّاز حدّاد لبطله مستغربة، وهو الذي يسير نحوها بكل قناعة، يرفض الرجوع إلى حالته كإنسان، ويفضل أن يكون نزيله وحشته ولاشيئيته، معتقدًا أنّ ذلك وسيلة احتجاجه على الواقع، وعلى الحرب، وعلى الحياة برمّتها، تلك التي غدت بالنسبة إليه موتًا يوميا ضاغطا يستنزف قواه وكيانه.
يرمز حدّاد في روايته إلى أنّه في بلد نسفت الحرب أسسه الاجتماعية ومعاييره الأخلاقية، يختار العاقل أن يكون مجنونا، ويفضّل الموت على حياة مفرغة من معناها، والعدم على وجود يفتقد مبناه وجوهره، وهذا ما ينذر بخراب أعمّ وأشمل، ولا يفسح أيّ مجال لأيّ بريق أمل بالتلويح ولو من بعيد.
يقدّم صاحب “جنود الله” صورة مرعبة عن راهن بلد تناهبته سنوات الحرب وشوّهته بطريقة مريعة، وذلك عبر استعراض حالات لشخصيات أفقدتها الحرب وجودها وحضورها وإنسانيتها، وصيّرتها أشياء، أو أعباء، وذلك بطريقة لمّاحة، وبأسلوب محبوك، كعادته في نسج أعماله الروائيّة المميزة.