تتخلّل السياسة نسيجَ عالمنا، إلى حدّ يمكننا القول معه إن السياسة هي التي صنعت العالم على هذا النحو المتعثّر وغير القويم، وإنْ كان أفضل ممّا سبقه، مع الكثير من التحفّظات؛ فقد شهدت بعض التجمّعات البشرية فتراتٍ ذهبية، ولم تعدم فتراتٍ سوداء. لم يُتَح للبشرية نظامٌ معقول، وإنْ حاولت الديمقراطية تحسين أحوال البشر، وهي جهدٌ سياسي، ونجحت إلى حدٍّ ما، يمكن الاطمئنان إليه بالمقارنة مع الجهود الأخرى.
لا يمكن إلغاء السياسة من الحياة، أو حتى استبعادها؛ هذا أمرٌ مفروغ منه، ولو أنها تبدو شأن السياسيين، لا ينازعهم عليها أحد. تُضاف إليهم الصحافة، التي تُدلي برأي في الأحداث الجارية، ما يوفّر على الناس الخوض فيها، وقد كانت بمثابة المُساعِد على فهم حركة السياسة في المجتمع. الملاحَظ في البلدان الديمقراطية أن حقّ الانتقاد والمساءلة متوافر إلى حدود معقولة، وإنْ كانت تضيق أحياناً، لكن لا يُمنع الأفراد من اللغو فيها عن صواب أو عن خطأ. بينما في الدول الشمولية، فالسلطة في الدولة، مسألة سياسية محظورٌ التعرّض إليها، والصحافة تصدح بما تمليه الدولة عليها، وهي المعبّر عنها، ولا يحقّ للمواطن محاسبة المسؤولين أو إبداء الرأي أو اتخاذ موقف ضدّها. فالحزب الحاكم هو المكلّف بالرأي والموقف، والأمور مضبوطة من حيث التراتبية، من القمّة إلى السفح.
يُعزى ذهاب الرواية الغربية نحو السياسة في وقت مبكر، إلى تمتُّع الأفراد ببعض الحرّيات، وخوضها صراعاً مع الرقابات المتعدّدة، ما ارتدّ بتوسيع دائرة الحرّية التي تمتّعت بها الرواية. ولم يكن الصراع إلّا مع السياسات المفروضة على المجتمع، ما أدّى إلى تملُّك الرواية قدراً من الحرّية سمح لها ببناء عالم تسرح فيه، عبّرت من خلاله عن تشاؤمها ونزواتها وأتراح الحياة ومباهجها.
تُخاطب الرواية العصر الذي تُكتب فيه ولو كانت تاريخية
في الأنظمة الأخرى، من دون تخصيص، لم يتأخّر التعاطي روائياً مع السياسة، وكان حسبَ برنامج مجمل الأحزاب بمختلف اتجاهاتها. والواضح أن الأيديولوجيات أثقلتها، فكانت الدعوة إلى نبذ السياسة. ما سجّل أسوأ ما حدث للرواية، سواءً عندما جرى توظيفها في مهام أيديولوجية، أو عندما ابتدع النقد اتّهاماً جاهزاً في حال مسّت الرواية شبهة سياسية.
يتناول الأدب الأفكار السياسية بشكل مغاير لِمَا توجد عليه في برنامج سياسي، أو مقال في جريدة، أو نشرة أخبار. ففي الرواية، البشر هم الذين يسعون على الأرض، أي أنهم بشر يحملون أفكاراً حيّة وحيوية ومقنِعة. هل هناك بشر لا يفكّرون؟ أمّا توخّي عدم اشتباه الأدب بالسياسة، فتقييدٌ مفتعَل لحرّية الأدب، ونسيانٌ لحقيقة أن الإنسان كائنٌ سياسي له أفكاره وانتماءاته ورؤيته حول طبيعة وجوده، وكيف يرى الحياة، ما دام في دولة ومجتمع. فالرؤية السياسية هي موقفه من العالم، وكيف يرى وضعه فيه، أو ماذا يكون هو فيه. وفي حال المنع، تظهر الرؤية السياسية بشكل مباشر أو رمزي أو ضمني… إنها كالقضاء، ودائماً هي دعوة لانتزاع البشر أقدارهم من أيّة سلطة تتحكم بها.
مَن يستطيع أن يفصل السياسة عن روايات بلزاك أو رواية “الأحمر والأسود” لستاندال؟ عكست هذه الرواية عصراً بسياساته وطموحاته ومباذله وصالوناته وانحطاطه. كذلك ماركيز في “مائة عام من العزلة”، التي شهّرت بانقلابات أميركا اللاتينية، بجنرالاتها وثوّارها وثوراتها والدماء التي أهدرتها شركات الموز.
الرواية في أحد وجوهها كتابةٌ عن العصر، فلماذا السعي لتغييبه تحت ادّعاء أن الرواية غير مقيّدة بزمان ومكان، وكأن الهدف روايةٌ تطفو فوق العصور، رواية خالدة، تستبطن الجوهر، تعيش إلى الأبد، بينما هي في الواقع لا تتجاوز عصرها نفسه الذي تموت فيه، هذا إنْ لم تتلاشَ بعد أيام، يقتلها عصرها نفسه. وينسى هؤلاء أن الزمن هو الذي يحكم عليها بالبقاء أو الاندثار. وإذا كان ثمّة بقاءٌ لها، فإلى متى؟
تُخاطب الرواية بالضرورة العصر الذي أُنتجت فيه، حتى لو كان الروائي يستحضر زمناً تاريخياً مضي، نلاحظه في إسقاطاته على زمانه. بمعنى أن الرواية تحمل سمات العصر الذي يخوض فيه البشر حياتهم. وسوف نراها بشكل واضح في روايات نجيب محفوظ، وربما لا يمكن استثناء رواية منها، وذلك يتبدّى جليّاً في ثلاثية القاهرة، وبشكل سافر في “الكرنك” و”ثرثرة فوق النيل” و”اللصّ والكلاب” وغيرها.
لا يمكن تفادي السياسة طالما أنها تقتحم الأدب، وهي الأكثر تأثيراً مُذ بدأ وعي الإنسان بحياته وحاجاته، وما يطمح إليه. فالسياسة نفسها تأخذنا إلى الفقر والسجن والعبودية والموت والاستلاب… وهي أيضاً التي تأخذنا إلى الحياة الحرّة.
-
المصدر :
- العربي الجديد