لو أن روائياً أراد تفسير هروب الملك لوي فيليب من باريس مع أسرته في ثلاث عربات صغيرة، إبّان ثورة 1848، سيتصور أن الملك أصيب بالهلع عندما سمع أفراد الحرس الوطني المكلّفين بحراسته في قصر “التويلري” يهتفون بالشعارات التي يرددها العامة: “نعم للإصلاح”. ما يعني أنهم انضموا إلى الثورة، فقرر النجاة بجلده.
وقد يخطر للروائي أن يعزو فراره لما توارد إلى ذهنه عما كتبه المحرر في جريدة “لا بريس” التي كانت موالية للحكومة، أنه يجب على الملك التنحي، أو أن يتوقع مصيراً كمصير لويس السادس عشر الذي عوقب على المقصلة مع زوجته ماري انطوانيت في زمن كان بعيداً، لكنه سجّل سابقة، فتخيل لوي فيليب لحظتها شفرة المقصلة تضرب عنقه، ورأسه يتدحرج على الأرض.
طبعاً لن يدّعي الروائي أن ما تخيله الملك، أو خالجه حقيقة، وإن دافع بأنه لا يجافي طبائع البشر، الملوك في النهاية مخلوقات بشرية، الموت يخيفهم، وهي حقيقة من حقائق الحياة، تتغلب على حقائق التاريخ، وصناعة النظريات الكبرى.
” يقول الروائي ما لا تتسع له رؤية المؤرخ”
لا ريب في أن التاريخ أقدر على معالجة المنعطفات الكبرى في حياة الشعوب، كسقوط الإمبراطوريات، واندلاع الثورات، واضمحلال سيادة الدول. فهو لا ينظر إليها كحدث معزول، بل يستجمع الأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أدّت إليها، ويضعها في إطار اندفاعة التاريخ نحو الأمام، فلا يعبأ بالضحايا ولا بالدمار، يهتم بالتغيير الحاصل. كما لا يغمط جوانبها الإيجابية من التقييم، ويجعل من الثورة آلية للتطور، وبأنها حق تاريخي للشعوب أشبه بالحق الإلهي.
بينما الروائي يقول ما لا تتسع له رؤية المؤرخ، إنها عن الفرد في التاريخ، تضعه في بؤرته، ليس كسيرة لواحد من الأباطرة والملوك أو الرؤساء، بل كفرد صغير يتشارك في طحنه الزمن والجموع الهائجة، والذين اعتقدوا أنهم استشفوا حركة التاريخ.
لا تركّز الرواية تأمّلها في الثورة على الاقتصاد والصراع الطبقي والتقدّم الصاعد القسري للتاريخ، وإن كانت تحيل إليها في ثناياها. وإن كانت لا تنصف الثورات، فلأنها تبرز الجانب المؤلم منها، المفرط في القسوة والعشوائية والدمار المادي والروحي والأخلاقي، وثقل النقلة الهائلة من صعيد إلى صعيد. تهتم بالأحاسيس والعواطف والمخاوف المهملة في معمعة التاريخ الهائل للبشرية. تترك حيزاً للمصادفات، والخصال الشخصية للأفراد، وما تنزع إليه طموحاتهم، وما يرتكبونه من هفوات وجرائم. تلاحق الأشخاص العاديين والمتسلقين على الثورة والمضحّين من أجلها.
الرواية أقدر من التاريخ على تلمس ما لا يهتم المؤرخون به، ولا في وارد الالتفات إليه. الرواية بحكم الكتابة عن الفرد، تنسب إليه ربما أدوراً أكبر من حجمه، لا طاقة له عليها. فالخيال لا حدود تقيّده، وفي حدسه مجازفة، إن أصابت، كانت أصدق من التاريخ.
-
المصدر :
- العربي الجديد