لم تصبح الرواية شعبيةً وتكتسب هذا اللقب إلّا بعدما صارت تُنشَر مسلسلةً في حلقات أسبوعية على صفحات المجلّات والجرائد، بينما كانت تُطبع في كتاب مجلّد بغلاف سميك، ما يمنحها أبّهة، أمّا أن تُنشر على ورق الجرائد، يُلقى بها إلى القمامة قبل أو بعد قدوم اليوم التالي، فقد أفقدها ذلك نخبويتها في مجتمع فتيات الطبقة الأرستقراطية، القارئات المجدّات اللواتي يتحلّقن عادةً حول المدفأة في ليالي الشتاء، تقرأ إحداهن بصوت مسموع، روايات الأخوات برونتي وجين أوستن وجورج إليوت. لا غرابة، في ذلك الوقت، أنّ الكثير من الكُتّاب امتنعوا عن نشر نتاجاتهم بهذا الشكل المشبوه بأخبار الجرائد، كان مضادّاً لتقاليد الأدب، ولا سيما أنه يُباع على قارعة الطريق، ويستطيع أيٌّ كان شراءه، ويمسي رهين القراءة وعدمها.
في مقال شهير بعنوان “الأدب الصناعي”، يُشبّه الناقد سانت بوف هذا النوع من الأدب ضمناً بالدعارة، فيما قال الناقد جول جانان الشيء ذاته بطريقة أكثر تأدّباً: “الأدب الشعبي” أو “الأدب السهل” مثل المومس الجميلة سهلة المنال، وذلك على العكس من “الأدب الجاد” الذي قارنه بـ”الاحتشام المملّ للسيدات الراقيات”.
إذا كان الهدف الأول للرواية الشعبية أن يكسب مؤلّفُها أجرهً بالتقسيط المبرمَج والمريح، ليضمن مورداً ثابتاً، طالما الرواية تتسلسل بانتظام، فإن الجريدة تخشى بالمقابل أن يتخلّف الكاتب ولا يوافيها بالحلقة قبل الطباعة، لذلك لم يخل العقد معه من شرط جزائي في حال التقاعس، أو النكث بالموعد.
اختفت الروايات المتسلسلة التي غيّرت تاريخ الرواية
لم تعد الرواية أسيرة النخبة، باتت لكلّ من يعرف القراءة، وحصدت جمهوراً من العامة كانت بحاجة إليه، كي تنتشر بين طبقات الشعب، وهكذا حققت الرواية ديمقراطيتها، فلم تعد ممنوعة ولا مقتصرة على طبقة دون طبقة. وقد ظهرت سطوة الشعب في حادثة فريدة من نوعها، عندما أصاب السير أرثر كونان دويل الملل من بطله شرلوك هولمز، وكانت مغامراته تُنشَر مسلسلةً في “ستراند ماغازين”، فدبّر له الموت مع مورياتي عدوّه اللدود، فخرجت مظاهرة احتجاج، رابطت أمام بيت المؤلّف وأعلنت عدم رضاها عن مقتل المحقّق العبقري هولمز، فأعاده دويل إلى الحياة في سلسلة بدأت بـ”كلب آل باسكرفيل”. ما يسترعي الاهتمام الصلةُ التي نشأت بين الكاتب والقارئ، تحت تأثير الروايات المتسلسلة، فقد استطاع القارئ انتقاد الرواية، وربما تغيير أحداثها عن طريق “بريد القراء”، وبات كأنه يشارك الكاتب في كتابتها.
لم تقتصر الرواية المسلسلة على المغامرات البوليسية، ولو أنها كانت مواتية من ناحية الإثارة والتشويق، فالكاتب الفرنسي فيكتور هيغو نشر روايته الكبرى “البؤساء” على هذه النحو، ولم تقل الإثارة الإنسانية فيها عن الإثارة البوليسية في رواية “أسرار باريس”، لـ أوجين سو؛ الكاتب الأكثر متابعة في فرنسا وخارجها. وربما كان الفرنسي بلزاك يقدّم مثالاً عجيباً مع دوستويفسكي، كانا ينشران رواياتهما على حلقات تحت ضغط الدائنين وأهواء الناشرين، وعاشا ردحاً من الزمن يدوران في حلقة مفرغة من الديون وتصنيع أعمالهما وهما يلهثان وراء الكلمات. كانا يتمنّيان ألّا يكتبا تحت هذه الضغوط من فرط خشيتهما على سوية إنتاجهما، ما يضع شعبيتهما في خطر.
الأمر المهم، هو أن الحكم الوحيد هو الناس، كما سيُتاح للكاتب الحكم على رواياته من خلال النجاح الذي يحقّقه لدى الجمهور، مع أنه قد لا يستطيع تلبية رغبة القارئ الذي ينتظر بفارغ الصبر “التتمّة في العدد القادم” بشكل كامل، لكنه في الوقت نفسه، مجبر على الإنتاج كي يستطيع العيش، وربما تسديد ديونه.
هذا النمط من النشر كان له نصيب في العربية، ففي الستّينيات كان الوسيلةَ لتحقيق الشهرة والشعبية، وأبرز من راجت رواياته المصريّان يوسف السباعي وإحسان عبد القدوس؛ فروايتا “نحن لا نزرع الشوك” و”لا تطفئ الشمس” نُشرتا مسلسلتَين في مجلّتي “روز اليوسف” و”صباح الخير”. وربما كانت ظروفهما ليست بأحسن كثيراً من بلزاك ودوستويفسكي، لكنها على التأكيد لم تكن أسوأ.
الروايات المسلسلة، إن لم تكن اختفت، فعلى طريق الاختفاء، وان ما زالت دارجةً في قصص الأطفال واليافعين المصوّرة، لكن الاستمرار الأقوى لفكرة “التسلسل” على نحو مختلف تماماً، كان في ما بعد مع ظهور التلفزيون، ولم يكن من ابتداعه ولا اختراع السينما، كان من الحاجة إلى جمهور مواظب.
-
المصدر :
- العربي الجديد