ساعدت الأزمة السورية الذاهبة إلى المجهول، على إطلاق تصريحات غير ملزمة لمسؤولين كبار في العالم تبدأ من رؤوساء الدول، تدرجاً إلى السكرتير الثالث، أو الرابع لوزراء الخارجية، وحرّضت صحافيين مخضرمين، وغير مخضرمين، في الصحافة الدولية والعربية، على تدبيج المقالات والتحليلات المطوّلة حول الشأن السوري. كما شاركت عشرات من مؤسسات الأبحاث العالمية في التنظير الاستراتيجي، لموقع الأزمة في صراعات العالم، عدا مراكز أبحاث أنشئت خصيصاً لهذه المعضلة. إضافة إلى تحقيقات ميدانية من أرض المعارك، مع الكثير من الأقاويل والشائعات والتنبؤات… أوضاع سورية وتطورات الأزمة كانت محور خليط من الاجتهادات، سواء كانت مقاربة للواقع أو على تضاد معه.

للمجهول طاقة استثنائية على تحمّل مروحة متناقضة من التحليلات، وتراكم التوقعات، وتأرجح الحلول بين التشاؤم والتفاول، لاسيما وأن هذا المجهول مستمر منذ ما يزيد على سنوات ثلاث. فلم تعد هناك مشكلة في أن يصرّح رئيس دولة كبرى بشيء، ويفعل عكسه، أو يتراجع عنه دونما خجل. كذلك الأمم المتحدة سواء أصدرت قرارات أو لم تصدر، مادامت قرارات مجلس الأمن مسلط عليها الفيتو الروسي. أما أصدقاء الشعب السوري فبرهنوا مراراً على أن صداقتهم معسولة، لا تقدم مساعدة، ولا تؤخر غارة على الشعب الأعزل، مجرد وعود. ما يذكرنا بخطوط أوباما الحمراء، وكانت للتشدّق الإعلامي، فالرئيس الأمريكي مضطر إلى أن يرغي ويزبد، تهديدات قائد العالم كانت لضرورات الوجاهة الدولية.

هذه الأجواء التي يضيع فيها الحابل بالنابل، وتفتقد إلى البوصلة، تتيح المجال لتكريس الأكاذيب على أنها حقائق صلبة، والمطامع على أنها حقائق استراتيجية. من هذا الجانب يمكن تحميل لغو الغرب عن المساعدات غير الفتاكة على أنه مؤامرة تستهدف النظام، يجري إنضاجها في مطابخ أجهزة الاستخبارات الغربية. في الوقت الذي تمنع أمريكا تسليح المعارضة. وأن تدخّل إيران في الأزمة حسب ادّعائها، أنها تخوض في سورية معركة الدفاع عن أراضيها، كذلك مشاركة حزب الله بالقتال، يسهم في مقاومة إسرائيل، بينما الروس يحاربون على الأرض السورية الأصوليات الإسلامية التي تهدّدهم في الشيشان. ما يرسخ في الأذهان أن الثورة السورية بمساعدة من الأمريكيين، تهدّد أمن إيران وروسيا، والاقتناع بحقّ الدولتين في الدفاع عن النفس، ولو كان في إزهاق أرواح السوريين.

تزرع هذه الأقاويل الملغومة في الأذهان، اليأس من ثورة، أصبحت وحيدة ومنبوذة ويتيمة ومغدورة… لأول مرة في التاريخ تستوعب ثورة لم يعترف بها، صفات توردها المهالك، وتضعها في خانة اليأس. بينما هي مستمرة، رغم أنها محاصرة بالقصف والتجويع والأسلحة المحرّمة، وتحبطها معارضة مكبّلة وعاجزة. وجيش حرّ مقطّع الأوصال ومستهدف من الميليشيات الإسلامية الراديكالية. أما جمهور الثورة فمهدّد بالفناء بالبراميل المتفجّرة، بينما الإشاعات الإيرانية والروسية تعمل على ترويج الأضاليل عن المطالبين بالحرية والكرامة، تصفهم بالإرهابيين. كأن روسيا لم ترفع يوماً راية الكادحين المسحوقين في العالم، ولا إيران وقفت مع المستضعفين.

تمارس الدول الاحتيال أكثر من السياسة، إلا إذا كان هناك ما يدعى بسياسة الاحتيال. الصراعات بين الدول الكبرى والطامحة إلى تكون كبرى، تحبّذ هذا النوع من التعامل، لغة المصالح الخالصة، بموجبها تغتصب الحقوق، لصوص العالم محميون بموجب قانون لا مرئي هو أقوى من المرئي. من هذه الناحية لا يخشى عليهم، أي دولة تحاول أن تلعب دوراً إقليمياً، على حساب دول المنطقة، بإضعافها، فلأنها تنوي الدخول في دورة النهب العالمي، أي أن تأخذ ما لا يحقّ لها أن تأخذه بالقانون، فتلجأ إلى القانون المعمول به بين الكبار.

هذا الاحتيال العالمي، يمارس على جميع المستويات؛ سياسياً واقتصادياً وثقافياً، بخلق أجواء تساعد على تمرير أكثر الأفكار غرابة ولا معقولية، على أنها قدر لا فكاك منه، ومن هذا القبيل، زعم الروس أنهم يحاربون الإسلاميين على الأرض السورية دفاعاً عن أمنهم. وما طرحته إيران بأفواه قادتها الروحانيين وغير الروحانيين، دفاعاً عن المزارات المقدسة، وعن لبنان والقدس… ما أدّى إلى اعتبار سورية جزءاً لا يتجزّأ من أراضيها، وأن معركتها في الداخل السوري، معركة حياة أو موت… كل هذا لإقناع السوريين أن أي تغيير مستحيل، وفي العودة إلى ما كانوا عليه، الحل الأمثل للخروج من نفق لم يلمع فيه بصيص ضوء حتى الآن.