تقترب المحنة السورية من تسجيل عامها العاشر، لا نخطئ القول بأن نتائج الربيع العربي كانت كارثية، ويحلو لبعض المحللين تحميل تبعاتها لشبان الانتفاضة، مع أن شعاراتهم كانت عن الحرية والكرامة، والمطالبة بإصلاحات متواضعة، بريئة من التدمير والخراب. غير أن النظام حارب شعبه، ومنع عنه ما هو حق له؛ لا حرية، لا كرامة، لا إصلاحات. ولا ننسى الطغمة التي ساندته في طغيانه، وكانوا أشد طغياناً منه، كذلك الذين وقفوا على الحياد، ليس لأنهم محايدون، بل في انتظار ما سوف تسفر عنه الثورة، وكانت برأيهم لا تعني أكثر من أن الأوضاع فوضى، فكانت مبرراً، لئلا يلتحقوا بطرف، إلا بعدما تستتب الأمور له.
لم ينشغل العالم بسوريا إلا من ناحية رغبته في أن تشكل الانتفاضة حافزاً للنظام لإجراء إصلاحات على مستوى أجهزة الدولة، تمنع الفساد من التغول أكثر مما هو متغول، مع بعض الشكليات الديمقراطية، وهى إجراءات لا بد منها، ليحس الناس أن تغييراً حصل ، مع أن مثل هذا تغيير سيحصل، لكن لم يجد، لا صناديق الانتخابات، ولا إلغاء قانون الطوارئ، ولا دستور جديد … فعلت شيئاً، ما لم يكن هناك ما يمنع الأجهزة الأمنية من اقتياد المواطن من فراشه إلى حيث لاعودة.
حسم النظام أمره مع الإصلاحات مبكراً، وسرعان ما حسم أمره مع الحل السياسي، وأطلق نفير ألا تغيير، مدركاً أن أي تنازل للشعب يعني انحسار سلطته المطلقة، لا تساهل بهذا الخصوص، فالسلطة لا يمكن تقاسمها ولا تجزئتها، ففي النظام الدكتاتوري، المفاهيم مختلة، أي حق للبشر ولو كان فطرياً، يهدد سلطة الدكتاتور، فهو الذي يسمح ويمنع، إنه الآمر الناهي، وما يعطيه إنما هو مكرمة (كم هو قبيح هذا التعبير!) وليس غريباً في أكثر الأنظمة الدكتاتورية غباء وسفكاً للدماء.
بينما كانت النكبة السورية آخذة في الترسخ، بعضهم شبهها بالنكبة الفلسطينية، ولم يُغالِ، بعدما خلفت لاجئين بالملايين، ومعتقلين مضى على تغييبهم سنوات طويلة، ومفقودين إلى الأبد، وأطفال بالملايين بلا تعليم. وقبور جماعية، وشهداء ماتوا تحت التعذيب، لم يبق منهم سوى شهادة تثبت بأنهم ماتوا من ذبحة صدرية أو ما شابه، وربما بلا شهادة تثبت أنه ميت. حسب الواقع الدكتاتوري، هذه التكلفة الباهظة كانت درساً للشعب لئلا يثور، لواستجيب لهتافاته، قد يطالب بالديمقراطية.
في القصة السورية، إذا كان الحل السياسي مطلوباً، فهو يتلخص بالكرامة، أي أن القصة معقدة جداً، بل ومستحيلة، فالكرامة تحيلنا إلى العدالة والقانون، وإلى حرية الرأي والتعبير، ما يفتح قائمة طويلة من الحقوق المغيبة، تُفقد الشمولية ما يعزز وجودها من مخابرات تكتم الأنفاس، وفساد وعملاء وطاعة وعمى.
إزاء هذا التعجيز، تتضاءل القضية السورية، إلى قضية إصلاحات على المدى الطويل، إصلاحات تخدم النظام وليس الشعب، وهذا امتياز يبعدها عن السياسة. أما إنقاذ سوريا، فتُرى من هم القادرون عليه؟ إذا كان لنا أن نتفاءل، فليس الإيرانيون، هؤلاء يريدون إلحاقنا بإمبراطوريتهم. بينما القادرون على التخلص من النظام بحيث لا يكلفهم شيئاً، هم الروس أو الأمريكان، لأنهم يعرفون أن النظام عبارة عن مجموعات متوافقة من اللصوص، وإذا تنازعوا فعلى حصصهم من النهب، يكفي تخييرهم بين إرسالهم إلى السجون والمحاكمات، أو استقبالهم في منتجعات فارهة.
هذا الحل يأتي في النهاية، بينما الآن ما زالت الدولتان تبحثان عن مبررات لبقائهما في سوريا. لذلك كلاهما كلما أعيتهما الأسباب، يستثمران قصة الإرهاب، وهي قصة يمكن إظهارها وإخفاؤها، والتعظيم أو التقليل من خطرها، حسب الظروف.
القضية السورية مؤجلة، والأسباب كثيرة، ولا يمكن استبعاد السياسية منها، إنها الأكثر تأثيراً، لكن السياسة لا تبني من فراغ، ولا تهمل، بالنظر إلى أن الدول المحتلة، ترتاح إلى التعامل مع دكتاتور بحاجة إلى مساعدات، وليس شعب لديه تطلعات ديمقراطية، بينما مع الدكتاتورالعلاقة واضحة، والنظام مستقر ما دامت الرئاسة بالوراثة، والرئيس لا يهتم إلا بالبقاء، وتكديس الأموال في البنوك الآمنة، ما يسمح بابتزازه، والدفع ليس من جيبه، سوريا لديها ثروات وموقع استراتيجي وشعب كادح، وما يضمن هذا النهب الدولي أن النظام خالد أسوة بالرئيس. طبعاً لا يصدقون خلوده ولا أبديته، لكنه نظام طويل العمر، أما أعمار الشعوب فقصيرة، طالما أن المشانق تتحكم بأعمارها.
لم يبق من القضية السورية، لإنقاذها سوى العامل الإنساني، وهو امتحان لقيم الغرب، مع الأخذ بعين الاعتبار أنها تتجاوز المساعدات الإغاثية والمعونات الدورية، فسوريا لاعلاج سياسيا لها، لأن الدول الفاعلة ليس لها مصلحة في ذلك. بينما الإنسانية عامل يعول عليه، لكنه مفتقد في التعامل بين الدول، ولو جرى التذرع به، فالإنسانية مادة للثرثرة، والحكومات الغربية والعربية لا تقدم خدمات من هذا النوع، إذا كانت بريئة من السياسة، أو مشبوهة بها، إذاً كان لا بد من عمل إنساني لا بديل عنه، ما الذى سيكسبونه من سوريا معافاة؟ لا شيء، مكاسبهم تأتي من خرابها.
إذا أردنا توفير السؤال والجواب، فالأجدى معرفة أن الدول تعمل على مصالحها، ولا تبحث عن شهادات تثبت نزاهتها ولا أمانتها أو عدالتها، فلماذا تعبأ بالإنسانية، ولو كان لمجرد الدعاية والادعاء، ما الذي يهمهم من المعتقلين والنازحين واللاجئين، والأمراض تنهشها والغلاء يفتك بها. فالعالم اعتاد القضية السورية على هذا المنوال من الانهيار. إنها قضية تركت لمقاديرها، غالباً لتتماوت مع الزمن.
قضية سورية، قضية عموم السوريين، ومعركتها ما زالت في الداخل، ضد همجية النظام، وجشع الدول المحتلة.
-
المصدر :
- الناس نيوز