“أنا مع وطني إن كان على حق أو كان على باطل”. ترددت هذه العبارة مراراً. ففي القرن الماضي، مع اندلاع الحربين العالميتين الأولى والثانية، تحيّر الأوروبيون، لم يستطيعوا اتخاذ قرار يطمئنون إليه، ثوراتهم وحروبهم الدينية لم تنسهم مآسي الحروب، عندما يئسوا من الاختيار. ارتاحوا إلى تعويذة الوطن.

في تلك الأيام، وجدت آلة الدعاية بغيتها وكانت المبالغة في التعلق بوطن الأجداد، وُصِّفت لدى المحللين بـ”النزعة الوطنية”، ولم تكن سوى “الشوفينية”، ما جرّ شعوباً بأكملها إلى حروب هللوا لها، وآمنوا بها، وضحوا فيها بأرواحهم وأولادهم.

المثال الأكثر إثارة للاستغراب، كان ألمانيا النازية، حيث رفع شعار “ألمانيا فوق الجميع”، فأصبح الوطن الألماني أعظم الأوطان، والأمة الألمانية أفضل الأمم. ولمزيد من “التميّز”، تفوّق العرق الآري على الأعراق كلها، بينما الوطن لم يكن سوى هتلر.

ماذا يعني الوطن لنا نحن السوريين، في بلدنا الممزق بين النظام، والمناطق المحررة، ومناطق احتلها القادمون من بلدان العالم، وأقاموا خلافة تدّعي تمثيل العالم الإسلامي، أي ما يزيد عن مليار مسلم، إضافة إلى إقطاعات وكانتونات.

” مثقفو النظام هم الأشد عنجهية، مغرمون بالشهرة على حساب الحقيقة”

لن نستطرد، وإلا أحصينا أيضاً إمارات لعشرات البلدات الصغيرة والصغيرة جداً، ومنها ما لا يتعدى قرية وحاجزين، بعدد الفصائل المتحاربة، تجمعها أوضاع واحدة، أنها منكوبة، الخراب يرشح منها وإلى تزايد.

الثورة لم يُقض عليها، تسري في النفوس، وتنحسر على الأرض، تفضح النظام المهووس بالتدمير، نظام يملك الأرض وما عليها من بناء وبشر، يحق له أن يحرق ويبيد، هدفه الأوحد التشبث بالسلطة، ولو كان فوق أرض يباب، بقاؤه تمليه استراتيجيات الإيرانيين والروس ومصالحهم في المنطقة.

أما سورية الممزقة، فيتنازع مصائرها البائسة حمَلَة الأسلحة، والانغماسيون أصحاب اللحى الطويلة، مليشيات تمارس الظلام تحت ظلال الرايات السوداء.

بيد أن الأشد عنجهية، مثقفو النظام، المغرمون بالشهرة على حساب الحقيقة، يسوغون على حساب الحقيقة نفسها المجازر والتعذيب، في كتابات تقطر إنسانية، ما زالوا رهن تطلعاتهم، فالأكاذيب تضاعف الشهرة… والخوف أيضاً، هناك ما يثقل عليهم، ليس ضمائرهم، بل صفحة مرآة لا تكذب، مهما تجاهلوا صورتهم فيها، فهي الحقيقة الوحيدة التي لا مفرّ منها.

لم تهدأ أصوات المدافع في سورية، تهدر أقوى من الرعد، البراميل المتفجرة تقتل شظاياها الرجال والنساء والأطفال، تتطاير أجسادهم أشلاء في الفضاء، يشق الأهالي طريقهم بين الركام والغبار، يتراكضون لنقل الأموات والجرحى، يهرع المسعفون لإنقاذ المحاصرين تحت الأبنية المهدمة، يتعالى أنين الضحايا، وأصوات البكاء وولولة النساء، تصاحبها اللعنات على المجرمين، يتناهى إلى الأسماع صوت الأذان، لا ليس صوت الأذان، وإن كان صوت المؤذن، يطلب من الأهالي مساعدة ذويهم المنكوبين في البحث عن شهدائهم لدفنهم…

إنها سورية في قلب مأساتها تنشد الحرية، وما تواجهه أشد قهراً من العبودية.