لعبت سورية طوال العقود الأربعة الماضية أدواراً إقليمية بالغة الخطورة والتأثير في المنطقة، سواء في الصراع العربي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية، أو في إنقاذ لبنان من الحرب الأهلية وتداعياتها المؤلمة، ثم مواقفها اللافتة في حروب الخليج المتتالية، وفي بعضها خرجت على الإجماع العربي، وكانت على صواب…الخ. هذا حسب الكثير من المحللين، وإذا كان النظام اليوم يدافع عن شيء مؤثر له الأحقية بالذود عنه، فهو الدفاع عن ثقل سورية في المنطقة، كدور بارز لا ينبغي خسرانه، كان له أبلغ الأثر في التواجد على خارطة الصراعات الإقليمية، لئلا نقول الدولية.
منذ نحو سنتين، وعلى الرغم من انحسار فعالية هذا الدور، استطاعت الاستفادة منه، فالتحالفات التي أقامتها مع إيران وروسيا، ودورها المركزي السابق جعل الضغوط الإقليمية والدولية تتراجع إلى حدّ التهافت، رغم الإجماع العالمي على إدانة القمع الوحشي للاحتجاجات الشعبية. فالنظام كان عامل أمان بالنسبة للجوار، حتى أن دولة مثل الأردن لم تتورّط في ما بات يدعى بالمستنقع السوري، والدول العربية انقسمت بين مؤيد للثورة أو متجاهل لها، وبعضهم دعم النظام سرّاً وصمت في العلن. إضافة إلى التراجع في مواقف بعض الدول التي أيّدت الثورة في البداية، فلم تُجدِ الدعوات التي طالبت الأسد بالرحيل، ولا التهديدات التركية والأميركية والأوروبية المترافقة بعقوبات اقتصادية تنوّعت وتدرّجت إلى حد أنها لم تبقِ شيئاً لم تطله، ما أدى إلى تدهور اقتصادي تجلّى بالغلاء الفاحش، وهبوط الليرة السورية أمام الدولار، ووقوف الناس في أرتال تبلغ مئات الأمتار أمام الأفران ومحطات الوقود ومراكز توزيع الغاز.
هذا المشهد المضطرب يغرينا بابتداع قوى سحرية للنظام، سواء السابقة التي روّجت من خلال مظاهر براقة لصورة سورية كواحة للسلام والاطمئنان، أو الحالية كقلعة العلمانية وحامية الأقليات والخطّ الأمامي في محاربة الإرهاب. لكن في الوقت نفسه، انكشف النظام فلم يعد سوى ورقة في الأجندات الروسية والإيرانية، روسيا باستعادة دورها في العالم، وإيران في تأكيد دورها الإقليمي، وكلاهما في النهاية على حساب السوريين. ما أودى بالنظام إلى درك العمالة لدول طامحة إلى انتزاع مكانة لها في قلب المنطقة والعالم.
لن نبالغ بالخسارة، سورية أصلاً لم تكن قبل أزمتها الحالية مالكة لقدراتها ولا متحكّمة بمصائرها، في الحقيقة مصالح النظام تقاطعت تارة مع مصالح أميركا وأخرى مع فرنسا أو تركيا والخليج… ولم تكن أدواره الفاعلة إلا الاستفادة من هذه التقاطعات، وتقديم خدمات لها، حتى بخيانة مصالح سورية الاقتصادية والسياسية معاً، طالما تسهم في بقائه.
تُصنع أقدار بلداننا العربية في الخارج، في كواليس السياسات الدولية، ولا فضل لهذه السياسات على شعوبنا، إلا بتكريس الدكتاتوريات المريحة لها، ولو كان بالخراب والسجون، والموت البطيء والسريع. لأول مرة منذ عقود، تهبّ رياح الربيع العربي العاصفة في محاولة لتغيير هذا القدر الدولي الغاشم، على أمل أن نصنع أقدارنا في الداخل من دون تجييرها للخارج.
وإذ نقول أن العالم متواطئ مع النظام، فليس في هذا فضيحة، فمصالح هذا العالم الفاسد معه. العالم واقعي ومثله النظام، أما الشعوب فتحلم، غير أن الأحلام على تضاد مع الواقع، تنجلي الدماء فيها عن تفاسير لا تعدو كونها تكهّنات، بينما الدماء في الواقع تستجرّ الدماء، وأيضاً راجمات صواريخ وقاذفات قنابل. ترجمة الأحلام إلى حقائق، ثمنها باهظ، أحياناً أكثر من قدرة البشر على التحمّل. سورية تجاوزت هذه المرحلة، أصبحت في ما بعدها، لم تعد تجترّ أحلامها، نزلت إلى الواقع البغيض، المؤلم والمُبشّر، تدفن في كل يوم أبناءها دون تمييز بين معارض وموال، منشقّ وشبّيح، علماني وسلفي.
كلهم أبناء سورية الممزّقة.
-
المصدر :
- المدن