في مرحلة سبقت، لم تكن قشيبة، كانت حسب الزعم أقرب إلى التقشف، ظن المثقفون أنهم عثروا على القطار الذاهب إلى المستقبل. حسناً، إلى أين؟ كانت المحطة الأخيرة هي الشيوعية، إذا يجب القضاء على البرجوازيين، وإقامة دولة العمال، والفلاحين، كي يصل القطار إلى المحطة السعيدة، حيث لا أغنياء، ولا فقراء، بموجب نظرية لا تقل موثوقيتها عن النظريات العلمية هي الحتمية التاريخية، فلنحرق المراحل إليها؟
ما يجري الآن في سوريا شيء على شاكلة حرق المراحل، بعد عشر سنوات من التدمير، والقتل، والنهب والتهجير، تجسدت الحتمية التاريخية التي ابتدعها النظام، في التنظير لإقامة مجتمع جديد منسجم المكونات، العمل عليه بات على قدم، وساق، ولا رجعة عنه، بعد التنظيف الحاصل، أصبح التأسيس له آمنا تماماً، وإن ما زال الكثير من المواطنين الباقين في البلد يعملون على شد الرحال إلى الخارج، يحسنون صنعاً، الوطن ليس بحاجة إليهم. لن يبقى سوى الموالين المنتفعين، والموالين غير المنتفعين من المغرر بهم، كذلك المتشبثون بالوطن، والذين لا مكان يذهبون إليه، والعاجزون عن السفر، فالرحيل مكلف.
وإذا كان الشيوعيون عرفوا قوانين الصيرورة التاريخية، كذلك رجل النظام الأوحد ابتكر قوانين أخرى مماثلة للصيرورة التاريخية، أفضل، وأنجح، فالشيوعية سقطت بعد سبعين عاماً بفعل أخطاء صيرورتهم، أما صيرورة النظام فأبدية تنشد الخلود.
ينسى منظرو النظام الأغبياء، أن العالم كله غير قادر على رؤية المستقبل، هذا ما اعترف به مفكرون، وزعماء، وسياسيون، وأحزاب، لذلك تركوه لأفلام الخيال العلمي. لكن كما يبدو، وإذا أحسنا الظن، الأوحد مبتدع الفكرة متأثر بالفنون المستقبلية، هؤلاء كانت لديهم تنبؤاتهم البعيدة المدى، لكن يبدو أيضاً، أنه لا يعلم كثيراً عن نتائج محاولاتهم الطموحة في أن يكونوا سابقين لزمنهم، ظاهرة نلاحظها أيضاً لدى الأدباء خاصة الشعراء، والروائيين، رواية “عوليس” لجيمس جويس مازال النقاد يقفون أمامها فاغرين أفواههم، لماذا؟ المستقبل لم يأت بعد لتفهم.
هذا من إشكالات الفن، والفنانين مع قصة الزمن، إذ من فرط اهتمامهم بالمستقبل، وجب أن تكون أعمالهم استثنائية بالضرورة، أي ألا تكون مفهومة للأجيال الحالية، فعملوا على أعمال تنتمي لما بعد، أو لما بعد بعد. كما الحداثة، ألم تتجاوز ما بعد بعد الحداثة المتعارف عليها؟ أي إنتاج شيء يصلح لمستقبل ما غير منظور، مستقبل في علم الغيب.
ما جرى في سوريا نحا هذا المنحى، من ناحية أنه غير مفهوم، حتى بعد مرور عشر سنوات على خطاب آذار في مجلس الشعب، وإعلان الحرب على الشعب، لماذا كان القتل، وهذا الخراب الشامل؟ ولماذا إيران، والميليشيات المذهبية؟ ولماذا الروس، وقواعدهم العسكرية؟ ولماذا التهجير؟ هناك سلسلة لا تنتهي من اللماذات، فلا شيء مفهوم. أما الحال، فيلخصه وقوع سوريا تحت أربعة احتلالات.
إذا أردنا المجازفة، وتفسير هذا الجنون، الذي يتجاوز جنون الفنانين، وشطحاتهم غير الإجرامية، فهو صناعة سوريا أخرى، كصناعة إجرامية. وإذا اعتقدنا بهذه النوايا غير المفهومة إلا على نحو إجرامي، فلأن الإصلاحات التي كانت مرتقبة طوال العشرية الأولى من الرئاسة لم تحدث، ما حدث كان تغول المخابرات، وطغيان التدخل الإيراني، وانتشار عصابات الشبيحة التي طورت أعمالهم من الزعرنة، والخطف، وسرقة السيارات، فأضافت إليها تصنيع البكتاغون، وأصبح التشبيح علامة مسجلة، شملت عناصر مختلفة في المجتمع، فأصبح هناك شبيحة مسؤولون، ووزراء، وقضاة، وممثلون، ومثقفون، وشعراء، وروائيون، وصحفيون، وموالون مكشوفون، وموالون محايدون، ورماديون، وأحزاب، وجماعات من النوع الليبرالي، واليساري، والشيوعي سابقاً، والشيوعي حالياً.
إذا كانت النية تصنيع المستقبل البعيد، فالمستقبل غير مضمون، إنه مفتوح على احتمالات عديدة، يصعب حصرها، وتأكيد وجهتها، هذا بخصوص العالم الذي نحن جزء منه. أما بالنسبة لسوريا، فالمستقبل الذي تنبأ به الفن المستقبلي، أصبح من الماضي، وأمسى من تاريخ الفن، ليس كل عمل هو “عوليس”. هذا من قبيل العبرة، والتأمل.
مستقبل سوريا، شاء أم أبى، هو النموذج السياسي المعروف بالديمقراطية، ولوكان أسوأ أشكال الحكم، لماذا؟ لأن أشكال الحكم الأخرى أسوأ منه، حسب السياسي تشرشل. هذا الكلام أيضاً للجماعات المتأسلمة، فالإسلام لن يكون إلا ديمقراطياً.
أما لماذا الديمقراطية مرغوبة، فلأنها أفضل وسيلة لتجنب الطغيان، كذلك الجميع متساوون أمام القانون، حتى لو كان الرئيس، أو من عائلة الرئيس، أو من أقارب الرئيس. وأن أحداً لا يجرم أو يدان ما لم تثبت عليه الأدلة، هكذا لخصها الفيلسوف كارل بوبر. أما الفلاسفة الشبيحة، فيسعون إلى تشييد دولة الطغيان، وعدم المساواة أمام القانون، لعدم وجود قانون، فالقانون قانون المخابرات. أما بشأن التجريم فالشعب مدان، ولا دليل يثبت براءته.
وهكذا يصبح مفهوماً القتل، والخراب، والتهجير، والنهب، والاحتلالات.. وذلك الخلود، والأبد.
-
المصدر :
- الناس نيوز