في حادثة من أشهر حوادث الانتحار الجماعي، ما حدث في “غويانا” في 18 تشرين الثاني 1987راح ضحيته 913 من أتباع طائفة “معبد الشعوب”، استجابوا فيه لنداء القس الأميركي جيم جونز، ونفذوا “الانتحار الثوري”. ما شكل صدمةً ثقافيةً مفجعة للرأي العام الأميركي؛ كانت تعبيراً عن جنون التطرف إلى حد العمى في الموالاة، وإلغاء العقل والمنطق.

كانت أفكار جونز مزيجا من المسيحية الإنجيلية وروحانية العصر الجديد والعدالة الاجتماعية المتشددة. اللافت كان أن المنضمين إلى هذه الجماعة ليسوا من المغفلين، أو المتحمسين للعبادات الغريبة، ولا الأشرار الذين ينشدون التوبة، كان أغلبهم من الناس المحترمين المجتهدين، أرباب عائلات، ذوي وعي اجتماعي ناضج، إضافة إلى رجال طموحاتهم خدمة الرب ومساعدة إخوتهم البشر. كانت طروحاتهم حسب مفاهيم العصر والتقدم، تقوم على الدعوة إلى المساواة والعيش المسالم، والتعاون الاجتماعي، والاندماج العرقي.

كان جونز يحث أتباعه على الالتزام بتعاليمه، وكانت تتم بالتدريج بفرض أمور سهلة، كحضور خدمة الأربعاء الليلية، فرض أعطيات للكنيسة. مع الوقت، رفع سوية الالتزام؛ بتكريس وقت أكثر في الخدمة، قسَم ولاء، اعتراف علني بالذنوب، عقاب علني كالتعنيف والترحيل. كانت كل خطوةٍ صغيرة، تتبعها خطوة صغيرة، ثم أكبر فأكبر.. ثم أصبحت التعليمات بمنزلة الأوامر، والالتزام الكامل بها بلا اعتراض ولا مناقشة، ما أدى إلى ارتفاع منسوب الانصياع، وذلك بالتنازل عن حياتهم وأموالهم، وتربية أولادهم طبقا لمشروع الكنيسة الطوباوي. عندما أزف الوقت، لم يعد الانتحار سوى تنفيذ التزام آخر.اصطفَّ اتباعه صاغرين في طوابير مع أكواب السيانيد. فسُمِّم الأطفال أولًا، ثم تجرعه الكبار.

السؤال الذي تردد طويلًا، لماذا قتلوا أولادهم، ثم قتلوا أنفسهم، امتثالًا لتنفيذ أوامر شخص، مهما كان هذا الشخص، من دون مبرر معقول؟

السؤال الذي تردد طويلًا، لماذا قتلوا أولادهم، ثم قتلوا أنفسهم، امتثالًا لتنفيذ أوامر شخص، مهما كان هذا الشخص، من دون مبرر معقول؟ من هذه الزاوية، يمكن النظر إلى طائفة “معبد الشعوب” على أنها تمثل دولة شمولية مصغرة، يتم فيها تعطيل العقل خطوة خطوة، بحيث يغدو التدرج في الخنوع أمرا عاديًا، والتقيد بتنفيذ ما يطلب منهم، لا يتعارض مع عقل مستلب.

ليس في المثال السوري تزيداً، ما دام التلقي يبدأ منذ الصغر على نمط الخطوة خطوة، فالطفل ينشأ في الحضانة على صورة الرئيس الملونة مطبوعة على الجدران بين الأزهار والورود، ثم على غلاف الكتاب المدرسي، وكتب تعليم القراءة، ويهزج مع الأغاني التي تصدح بمحبة الأب الرئيس، وقد يحبه أكثر من أبيه وأمه، وعندما يصبح طليعيًا أو شبيبيًا، قد يشي بأصدقائه وربما بعائلته، وهو ما حدث في ألمانيا النازية. في الصباح يهتف بشعار؛ بالروح بالدم نفديك…. وفي دروس القومية، يحرر الرئيس البلاد من الاستعمار ومصاصي دماء الشعب والفقر والجهل، وفي التاريخ يصد الغزاة الإمبرياليين، وفي الإذاعة أخبار الرئيس اليومية، يستقبل ويودع، لا أحد غيره يحتل نشرات الأخبار، وفي الجرائد تتوالى مكرماته، برفع المعاشات مرورًا بالأعطيات. وفي التلفزيون لا يكف الرئيس عن إلقاء الخطابات القومية الجامعة، حوله كبار المسؤولين مطأطئون برؤوسهم، وفي الشوارع صوره بأوضاع مختلفة وبأحجام متنوعة ، تطالعه أينما مشى، وكيفما تلفت… إنها خطوات صغيرة، لكنها ليست صغيرة من فرط تدفقها، لا يتوقف ضخها منذ الصباح حتى المساء، وقد تزوره في الأحلام، تصبح من طبيعة الحياة، تمنح الروح للأشياء، وكأنها القدر … وكل خطوة تمنح الرئيس قدرات تتفاقم، وألقاب تتراكم، موجود دائما، في كل مكان، كأنه الله، إن لم يكن هو، فشبيه به، أو لا يقل عنه، أو مرسل منه. عندئذ، ليس كثيراً عليه أن يكون الرئيس الخالد، يوهب الحياة لشعبه، أما العقوبة فلا أقل من التعذيب حتى الموت، لكل من يخالف أو يحتج. وسائله الهائلة لا تكف عن العمل، تتبدى في معرفة من يتكلم أو يهمس، أو ارتكب خطأ لم يدر كنهه. أما الطاعة فمطلقة، ما دام هناك من سينتزعه من بيته، لا يعود بعدها، وإذا عاد بعد سنوات، فلن يكون الرجل نفسه.

هكذا تزرع صورة الدكتاتور، صورة تحتل مساحة الوطن، يصبح هو الوطن، تحصد موالين عميان، من خلالها يجري تلقين المواطن على الخنوع منذ نعومة أظفاره إلى حين يودع الحياة. هذه العملية تسارعت في زمن الحرب، لم تكن ساحات القتال للجنود والشبيحة وميليشيات الدفاع الوطني سوى انتحارات جماعية، أما التضحيات فالتزام بالقتال حتى الموت.

ما برحت سوريا طيلة عشر سنوات، تراوح في مأزق الانتحار الجماعي، وزمن الموالاة الدموية الهانئة، وحرب قد تتجدد، ما دام أنها لم تنته بعد، الموالون الصغار ملتزمون بالرئيس، يستفيدون من التعفيش، بينما الكبار يقتاتون من الفساد. تلك مكافأة العمى، أما ثمنه فالموت عبثا، سواء أرغم عليه، أو كان طواعية، فالاستدراج تم على مراحل.

كان الظن أن اتباع جونز يعيشون بسعادة ورضا في منتجع الأخيار، إلى أن كشف المجتمع المثالي عن حقيقته المرعبة التي أدت إلى هذا الجنون الجماعي، سبقته عملية تدريب على الخنوع، عندما حلت ساعته، كانوا جاهزين للموت. وإذا كان من حقيقة ساطعة، فلن تكون الموالاة العمياء إلا تدريبا على الانتحار.

هل ثمة أمل في عودة الوعي؟ ليس اكتشافا القول، لن ينتهي النزيف السوري، إلا إذا وعى الفرد حقوقه الإنسانية ومسؤولياته الوطنية، واعتبر أن الحرية والعدالة والأمان لا تنازل عنها.