النجاح الذي أحرزه الأدب خلال السنوات الماضية، ظهر في الترويج للرواية وإسباغ الجوائز عليها، أحد نتائجه الإيجابية، ظهور جحافل من الروائيين والروائيات، وتوسيع انتشار الرواية. أصبح قراؤها لا يقتصرون على طلاب الجامعة والعشّاق الأوفياء للخيال والمغامرات والمآسي. غدت ظاهرة عامة، تتضخم يوماً بعد يوم.
ولقد كان من المتوقع، سقوط الأوهام حول الروائيين، فكتابة الرواية باتت مفتوحة للجميع دونما تمييز، ما يبدّد الزعم عن تفرّد مؤلفيها، والنظر بإعجاب إلى أمزجتهم وطقوسهم في الكتابة، أو في اعتبار الروائي شخصاً يتمتع بسحنة شاحبة ونظرات غامضة وآراء جريئة.
أصبح من الممكن مصادفته في شارع أو مطعم، دونما سمات ملهمة مهما كان شارداً، قد يشكو من الغلاء والعسف والطغيان، وربما مطلوباً حياً أو ميتاً من أجهزة الأمن، ففي سورية أعدم روائي لقيامه بأعمال إغاثية، وآخر لقيامه بنشاط إعلامي مؤيد لمظاهرات الاحتجاج.
زُعم يوماً أن الأدباء يعيشون في أبراج عاجية، وكان هذا تحت تأثير الشائعات والسينما والتلفزيون، مع أنه في بلادنا لم يظفر كاتبٌ ببرج عاجي. فالروائي حنا مينة اعتقل وطورد ثم توظف، ومن الممكن بكل بساطة أن تراه في بيته، ويبادلك الحديث بكل تواضع وأريحية.
” جرى في الفترة الأخيرة تجديد شائعة البرج العاجي”
في العهد القشيب الحالي للرواية، فوجئ الروائيون الجدد بالهالات التي انهالت عليهم، والتقدير الذي حازته رواياتهم، مع أن الأسباب الحقيقية لفوزهم لم تُعرف تماماً، فالجوائز بلا معايير، أو أنها تتغيّر من دورة لأخرى، بداعي ملاحقة تطوّر الرواية؛ سوغته الدعاية المرافقة للجوائز، فأصبحوا روائيين كباراً قبل الأوان، باعتراف سادة الإعلام الثقافي الأدرى بمواهبهم، ما اضطرهم كي يكونوا على مستوى الشهرة الاعتناء بالدعاية ولو بأساليب لا تليق بمهنة يُعتقد أنها نزيهة، وأصبحت تتطلب انتهاز الفرص، وهدر الكرامة بالتزلّف لتجّار الإعلام والصحافة الثقافية. لكن ما العمل، الرواية تجارة.
واكب هذه النقلة العمل على تجديد شائعة البرج العاجي بالاستئناس بالشائعات، مع تقاليد استوردت من منابعها الغربية، تحيل تميّز الكاتب تارة إلى غرابة أطواره، وأخرى إلى بصيرته النافذة، فأصبح يُستفتى في كل شيء، من فن الرواية إلى التصوّف والحجاب، ما يسهم في شعبيته ورفع مبيعات كتبه، وحظي القراء برؤيته بالعين المجردة في حفلات توقيع الكتاب.
ساير الكتّاب الموضوعات الراهنة، فأصبح الإرهاب الموضوع الرائج مع إغفال المسبب له، كالاستبداد وفساد الأنظمة. بالتالي نُبذت الموضوعات المشتبه بعلاقتها بالسياسة كانتقاد السلطة والمجتمع والقمع، والتأكيد على العدالة والحرية.
لكن وبالرغم من إغفال الكتابة المنحازة إلى البشر، ما زالت الحاجة إليها ماسة في تغيير نظرتنا إلى العالم، وما الرواية المضادة للسائد إلا أنموذجاً للكتابة، تمنح الكاتب سلطة لا تفوقها سلطة دولة أو مخابرات محلية أو دولية، ولا سلطة ناقد أو صحافي أو سياسي أو رجل أعمال. الرواية سلطة، وإن كانت وهمية، لا تعدم الحقيقة، حين الإيمان بها.
اقــرأ أيضاً
-
المصدر :
- العربي الجديد