نختار الكتابة، فنختار مبعث آلامنا وأفراحنا. ببسيط العبارة، تصبح قدرنا المحتوم بما تعدنا به من متعة وشقاء، مهنةً كانت أو هواية، في عالم لا فضل لنا عليه، ما دام أننا نستقي منه أفكارنا ورؤانا، ولا نعفيه من تساؤلاتنا. ومثلما ستوحي لنا القضايا الكبرى بما سنكتبه، لن تقل عنها القضايا الصغرى أهمية، سواء ذات شأن، أو تافهة. ما يحفظ صوابية اختياراتنا أنه في الكتابة، لا ممنوعات ولا استثناءات ولا حجر… لكن ليس بلا تبعات.

إنها عالم من الحرية، ما يوجب عدم التنازل عنها؛ امتياز لا يُنكَر، يمنح الكاتبَ تميّزاً عن غيره، لكنها لن تزيد على دعايات وادعاءات إن لم تُستثمر، فإذا كانت تخوّله سلطات جمّة، فليس كي تتحوّل إلى مأثرة يستغلّها في الظاهر، وينجو من عبئها في الواقع.

تمثّل رقعة الورق البيضاء ساحة عمليات الكاتب، خاضعة لمشيئته، مع كل الحق في استغلالها كيفما يشاء، في ما يريد قوله، أو التعبير عنه، قد تحتوى على تجربة شخصية، أو اجتماعية، فالكاتب يتحسّس إشكالات حياتية وحالات وجدانية، لا تخلو من نظرات ذاتية ودينية وسياسية، تحمل الكثير من إشارات الاستفهام، إن لم يكن التحدّيات، لا سيما عندما تكشف عن استسلام الناس لأوضاع مجبرين عليها، هل هي نهاية المطاف بالنسبة إليهم، أم أنها حلقة ينبغي كسرها؟
سواء كان الكاتب يحرّض على الرفض، أو التمرّد والثورة، تحفل كتاباته مهما كان نوعها، مباشرة أو مبطنة، بتساؤلات عن أوضاع لا إنسانية، والتشكيك بمشروعية الأنظمة في اللجوء إلى قمع يتجاوز الحرمان من الحرية إلى الحرمان من الحياة.

” كان تاريخ الكتابة في مجمله سلسلة مواجهات مع السلطة”

الكتابة دعوة إلى الفهم بالدرجة الأولى. إذا أخذنا بالاعتبار أن الكاتب لا يكتب إلّا ليَفهم، فهو بحاجة إلى أن يعرف الحقيقة ولو كانت ضدّه، لا يمكن أن يضيء ما حوله، إن لم ينجل الظلام في داخله. هذا من طبائعها، ينحو الكاتب بهذا الاتجاه، أراد أو لم يرد، وإلّا كانت الكتابة وصفة للعبث المَرَضي، والغرور الأجوف. فالكتابة الحقيقية ليست في التحدّي الصلب للسائد طلباً للشهرة، بل دفاعاً عن الإنسانية. وإن كانت الكتابة المثيرة محبّبةً عند الكثيرين من هواة المتعة للمتعة.

يقف الكاتب في مواجهة السلطة يحمل قلمه، وعلى عاتقه ضمير لا يهادن ولا يحابي، بينما السلطة تحمل السوط بيد وبالأخرى القيد. لا ترتاح للأسئلة، تعتقد أنها مكلفة بألّا تجيب عنها، وإنما اقتياد من يطرحها إلى التحقيق، وإلحاقة بمن سبقه. الكاتب مهدَّد بالشتم واللعن والإحالة إلى القضاء، ولا يستبعد السحل المعنوي والمادي. ما يضطره في أفضل الأحوال إلى ممارسة حرية حذرة، متوجّساً من نواهي السلطة وإغراءاتها، فالكاتب ليس حرّاً في عالم مكبّل، وسلطة لا ترحم ولا تهادن، لا مفرّ من الصدام معها، وفي هذا أمثلة كثيرة تشق على الحصر، حتى أن تاريخ الكتابة، كان ولا ريب سلسلة مواجهات معها. ما يُحسَب للكاتب أنه لا يكتفي بالقعود مكتوف اليدين، ينعم بأمجاده، إن لم يكن براحة باله.

على مرّ العصور، كان الكاتب سلطة هو الآخر، تصدّى لسلطات كانت، بأنواعها، تعتبر نفسها غير مسؤولة عن أخطائها وخطاياها، وجرائمها أيضاً. أمّا سلطة الكاتب فمسؤولية، الإساءة إليها تتبدّى في عدم استعمالها، ولا تعفيه من نتائجها، فهو مسؤول عمّا يكتب، وفي هذا عظمة الكتابة.

كل ما سبق، هو نوع من الافتراضات غير المستحيلة، وإن كانت تحيلنا إلى كاتب مثالي، لا يندر وجوده، وإلّا لم يُعدَم مثقّفون وكتّاب، أو يعانوا من الاضطهاد والنفي. تحتاج البشرية إلى مثل هؤلاء الأشخاص، لا يشترط أن يكونوا نسخة طبق الأصل عمّا ذكرناه، لكنهم في حمأة الحياة لا يتنازلون عن إنسانيتهم، ويتعمّدون عن قناعة ووعي فعل شيء جيّد، ربما كان عظيماً، فيُقدمون عليه، وهم يعرفون أنه، إن لم يكلّفهم حياتهم، قد يفقدهم الأمان.