ليست سمعة الفلسفة بالجيدة لدى الناس العاديين، يعتبرونها نوعاً من الثرثرة يخص المتعالمين من المثقفين، أقرب إلى الهراء، وفي أفضل الأحوال، تعقيد ما هو بسيط، وفي حال خطر لهم الاطلاع عليها، فمن باب الفضول. وإذا حاولوا استدراكها من مصادرها الأساسية، في كتابات الفلاسفة الكبار، فسوف يخوضون في عالم مغلق، مصطلحاته غير مفهومة. غالباً ما يكتفون بما يسمعونه عن التيارات الفلسفية من الصحافة ووسائل الإعلام، واليوم من وسائل التواصل الاجتماعي، تُقدّم من غير اختصاصين بمراجعات موجزة ومختزلة، من جانب واحد، وأحياناً سطحية وللإثارة.
هذا ما أصاب الوجودية والماركسية، فاختزلت الوجودية بالبوهيمية والماركسية بستالين، فتسارعت الاستنتاجات وأدت إلى نبذ الوجودية، على أنها حرية بلا أخلاق، أما الماركسية، فصُبت عليها اللعنات، إذا كانت ستأخذنا إلى منافي سيبيريا. ما أيّد هذه الأفكار السلبية حولهما، عدوى الملتحقين الأغرار بالوجودية بالتقليعات المتهتكة، وما أصاب الماركسية كان أدهى، الدكتاتوريات في العالم التي أعلنت اشتراكياتها، اكتسبت فيها المشانق والتصفيات الجماعية حجية قانونية، ما أضفى عليها شرعية دموية. ولا تزال شعوبنا تعاني من هذه اللوثة، بعدما برهن لفيف من العسكريين، كانت يساريتهم المتطرفة مستمدة من الأحقاد، وكانت ذريعة للعنف الهمجي، على أنه الثوري.
ولقد كان للأجيال الجديدة رغبة في التخفف من الفلسفات المشبوهة، والتطلع إلى ما يمكن أن ينعكس عليها بما هو ملموس، فكان العمل على تحقيق الديمقراطية، وهو أمر بات ضرورياً، بدلاً من الخوض في فلسفات علاقتها مَرَضية بالفلسفات الأم الحقيقية. خاصة وأن التأويلات لعبت دوراً في التشويش على تطلعات خيّرة رغم ما انطوت عليه من حيرة، والأجدى عدم الخوض فيها، لئلا تُستثمر عكس مقاصدها. لكن ماذا لو كنّا ليس بمنأى عن الفلسفة فعلاً، وربما غارقين فيها ونحن لا ندري؟
ليس هناك قضايا نهائية وحاسمة وإنما محاولات تتلو محاولات
منذ وقف الإنسان في سكون الليل، ينظر إلى سماء تضيئها النجوم، وتساءل عن هذا اللغز الكوني، ما استجره إلى وجوده، من هو أو من يكون؟ وما معنى الحياة؟ بمجرد طرحه هذا التساؤلات، كان قد تفلسف، وسواء ابتكر جواباً، أو لم يجد لتساؤلاته جواباً، فقد طرح الأسئلة الكبرى للفلسفة، أو ما يعبّر عنها في جوهرها، وسوف ترافقه إلى آخر حياته، كما رافقت البشرية من قبل، ومن بعد، طوال تتالي العصور.
تلخّصت الفلسفة بسؤال عن الحياة، وكان لتداعياته أنها لم تقتصر على العالم والكون، ارتدّت أيضاً إلى الذات الإنسانية، حسب السؤال الشهير لسقراط: اعرف نفسك. بذلك وضع السؤال الأساسي الثاني للفلسفة.
صمد السؤالان، وما زالا، ليس دونما جواب، بل حصلا على الكثير من الإجابات الفلسفية، أسهمت فيها الأديان بالنصيب الأكبر في بعض العصور، حتى أنها أزاحت الفلسفة جانباً، وأخذت مكانها، وحلت إشكالات المعنى والنفس، وكادت أن تقضي عليها، لولا الشك سلاح الفلسفة الأثير، الذي أنقذها من السبات المرعب، واستعاد العقل مغامراته في المعلوم والمجهول، وما استجرته تعثراته من أسئلة لا حصر لها، وإن لم يظفر بجواب شاف.
الأمر الجيد أن الحياة لا تتوقف سواء حصلنا أو لم نحصل على ما يطمئننا، أو يريحنا من عناء السؤال، دائماً ثمة ما يشغلنا، ونفكر أن الحياة ستنتهي أو أنها بلا نهاية، أو ثمة يوم حساب، أو عقاب، أو أننا سنتلاشى في فراغ، كما لو أننا جئنا من فراغ، ومهما وضعنا من حدود، فلا حدود.
لا تنفصل الفلسفة عن الإنسان، إلا إذا فصلنا العقل عنه، كل منا يتفلسف حسب قدرته، أو حسب حاجته، ولا يعني تعميم الفلسفة انحداراً لها، بل التذكير بأنها كامنة في نسيج رؤيتنا للحياة. فالفلسفة ليست مجرد دعوة إلى التفكير، بل التفكير رغماً عنا بما يتجاوز مجرد العيش، إنها مواجهة ذواتنا والآخرين والعالم والحياة والكون والدين والمصير.
ترسم الفلسفة مسيرة الإنسان في الحياة والكون، بما تحفل به من قلق إنساني، ورعب وجودي، وأرق من الصمت الكوني، وربما في هذا العذاب، تتجلّى قدرة الإنسان في الشعور بإنسانيته، يحاول أن يزيح ظلمته بالأنوار، وكل إنسان لا بد يحصل على إجابات تخصه، ترضيه وقد تسعده، أو تدفعه إلى اليأس، وربما الانتحار. إذ ليس هناك قضايا نهائية، ولا آراء حاسمة، أو معتقدات جازمة، وإنما محاولات تتلو محاولات، سواء خرج الإنسان منها ممتلئ الوفاض آو خالي الوفاض، ففي الحالين تلك هي رؤية ما للحياة.
-
المصدر :
- العربي الجديد