بالرغم من الحرب الدائرة في غزّة حالياً، والحروب التي سبقت، وعدم التراجع عن المقاومة بين جيل وآخر، رغم ما تكبّده الفلسطينيون من شهداء وضحايا ودمار، سيبدو من المستغرب أننا ما زلنا نجد عسراً واستعصاء في فهم المبرّرات الحقيقية، بعيداً عن التضليل والأكاذيب، في ما يدفع الإسرائيليون إلى الاعتقاد أن لهم حقّاً لا يتزعزع في التشبّث بأرضٍ ليست أرضهم، ومساندة حكومات الغرب لهم، وكأنَّ هناك حقائق نحن غافلون عنها، أو أننا نتجاهلها.

يفضّل الإسرائيليون لإثبات حقّهم في فلسطين، العودة إلى التاريخ القديم، وإشهار دليل يدّعون ألّا أحد يُنازعُهم عليه، دليل ديني، يُنظر إليه على أنّه إلهيٌّ، مع أنَّ غالبية الذين أشهروا هذه الحجّة علمانيون وملحدون. مع هذا تؤخذ هذه البيّنة على محمل الجد، بزعم أنَّ الله أعطى “أرض إسرائيل” في الأصل لبني إسرائيل، وبما أنّهم الأحفاد لأجيال ممتدة على مدى ثلاثة آلاف سنة في التاريخ، يطالبون بأرض رصدت لهم في التوراة. لكن الكثيرين من اليهود يخالفون هذا التفسير، فالأدلة واهية، لكن لا بد من التمسك بها على أنها مسألة إيمان، أي مسألة لا تناقش.

هذا التاريخ المُفبرك، لا يصمد أبداً في إنشاء حق، وهو التاريخ نفسه الذي ما زالت ثلاثة أجيال من تلاميذ المدارس الصهيونية يتعلمونه بالتّلقين، ويصدّقونه، ما جعل من الفلسطينيّين معتدين على “أرض إسرائيل” التاريخية، وفي أحسن الأحوال شاغلين مؤقتين للأرض، سيأخذ ترحيلهم بالحسنى أو بالقوّة بعض الوقت، ولا سيّما أنهم عرب، في الصحارى الشاسعة متّسع لهم.

لا تخفى الحقائق على الغرب، ما دام أنّه يصنع الأكاذيب

أمّا المستند السياسي فناجمٌ عن العقلية الاستعمارية، التي لا تجد في الاحتلال والتوطين مشكلة، وما دام أنَّ النظر الاستعماري في صلب السياسة البريطانية، ونجم عنها حربان عالميتان، كانتا في أحد وجوههما حول المستعمرات، رغم هذا لم يحظ الادعاء الديني الصهيوني الهزيل بأي ثقل، إلّا من حيث إدراج “وعد بلفور” في خطة تمّ إعدادها لحلِّ مشكلة أوروبية، هي انتشار معاداة السامية التي لا يُمكن التخلّص منها إلّا بالتخلّص من يهود أوروبا. ما اضطر بريطانيا، ثم أميركا إلى الدفاع عن وجود كيان زُرع بالقوة بعد الحرب العالمية الأولى، في بلد كان الفلسطينيون السكان الأصليين منذ نحو ألفي عام من التاريخ.

اليوم، لا يمكن إغفال شبه الإجماع في الرأي العام الإسرائيلي على “عدالة” حربهم في غزّة، ولا إغفال، أيضاً، أنَّ الحكومات الأميركية والأوروبية في مجلس الأمن، اعتبرت أعمال المقاومة الفلسطينية معاداة للسامية، وكلّ مقاومة يقوم بها الفلسطينيون “إرهاباً”.‏ ما شجع إسرائيل على اتخاذ قرار بشن حرب بربرية، لم تتراجع عنها، حتى بعد قرار “محكمة العدل الدولية”، بأنّه ‏‏يمكن النظر إلى ما يدور في غزّة على أنّه يشكّل إبادة جماعية‏‏. وما زالت تحاول، لكنّها مخاطرة، إذ لا يمكن تجنّبها تحت أنظار صحوة جزء لا يُستهان به من العالم، لكنّها لا توفر جهداً في تدمير حياة الفلسطينيّين، وجعل مدنهم غير صالحة للحياة، ودفعهم إلى الرحيل؛ في حرب إبادة جماعية فعلية تُنفّذ بالتدريج.

على مدى 75 عاماً قاوم الفلسطينيون الكيان الصهيوني الاستعماري التوسعيّ. ولم يتحقّق السلام أبداً. لم تكن “إسرائيل” تسعى إليه، كانت تسعى إلى انتزاع المزيد من الأراضي الفلسطينية، وسواء كانت رغبة المقاومة محو “إسرائيل” من الخريطة أم لا، فقد كان الرأي هو أنّها لا تملك القدرة العسكرية. كل ما في وسعها فعله شنّ حرب منخفضة المردود ضدّ “إسرائيل” التي لا تعدم القدرة على محو الفلسطينيين.‏ لذلك كانت المفاجأة في طوفان الأقصى، ليس في أنّها أثبتت القدرة على ردم الهوّة مع القدرات العسكرية الهائلة لـ”إسرائيل” فقط، وانما في أنَّ المقاومة لا يمكن القضاء عليها، وتستطيع اختلاق أساليب لاستمراريتها إلى نهاية، تعيد ما استلب من فلسطين.

يدلّنا تزييف التاريخ على قوة تأثيره، إذ يبلغ حدود تبرير الشر المطلق، ففي استخدام قصة العماليق وغيرها، تبرير للمذابح الوحشية في مجازر غزّة، باستثمار ماض يهوديٍّ خرافي. فاعتبرت أمة بكاملها هي المسؤولة، ولم يُستثن الأطفال، باعتبارهم مشاريع إرهابيين، ولا النساء الولّادات تهديداً بزيادة النسل. هل تزييف التاريخ هو الذي دفع الدول الغربية إلى اعتبار المقاومة الفلسطينية إرهاباً؟

لا تخفى الحقائق على الغرب، ما دام أنّه يصنع الأكاذيب، ويَغض النّظر عن التزييف، ما سمح له بتجاهل جرائم، تبدأ بعقود من القمع الاستيطاني، والطّرد من البلاد، ومصادرة الأراضي، والتوغّلات العسكرية، وعنف المستوطنين، والفصل العنصري، والاعتقالات الجماعية، ولن تنتهي بترحيل سكان غزّة.

إلى الآن، يعجز الإسرائيليون عن الاعتراف بأنّ حدث السابع من تشرين الأول/أكتوبر، لم يكن بدافع معاداة السامية، وإن شاركهم معظم الدول الغربية. لم يُرد كلاهما فهم أنَّ الرد الفلسطيني كان فعل مقاومة وحركة تحرّر وطني، وهي حق لكل شعب. لا تظهر الحقائق من عدم، إنها موجودة، هناك من يحملونها، ولا يتخلّون عنها، ولن يصمد تزييف التاريخ، ولا الوعود الباطلة، أمام الحقائق الدامغة.