تُثار كلّ فترة بعض القضايا الأدبية، ليست شديدة الأهمية إلّا من فرط تكرارها، وفي كلّ مرّة يعظُم شأنها، فالأمر يتعلّق بالنهج الذي ستأخُذه الرواية فيما بعد أو قريباً، مع أنه لا مُبرّر للانحياز إلى نوع أو تيّار أو شكل روائي. أما المثال فبالتحديد يتطرّق إلى الحجم، هل من المُستحسَن في عصرنا هذا اعتماد حجم مُوحَّد للرواية؟ خاصة أن البشرية لم تعُد في عصر السرعة، بل تجاوزته وأصبحت في عصر الذّكاء الاصطناعي، أي يجب اختراع وصفة روائية ذكيّة تتغلّب على ذكاء الروائي الاصطناعي. فمالَ الاقتراح إلى “النوفيلا”، وهي الرواية صغيرة الحجم، لا تقلّ في أحد المقاييس عن ثمانين صفحة ولا تزيد عن مئة وخمسين صفحة، طبعاً يُمكن التساهُل في هذه الأرقام، سواء بالزيادة أو النقصان.

في الاقتراح نفسه سببٌ وجيه، لإنهاء عصر الروايات ذات الحجم الكبير، لا سيّما أنّ هناك روايات تعدادُ صفحاتها تجاوَز المئات إلى عدّة آلاف ومنها بعض الروايات الكلاسيكية، وما بعد الكلاسيكية مثل “البحث عن الزمن المفقود” لمارسيل بروست، و”أسرة تيبو” لروجيه مارتان دوغار، و”ثلاثيّة القاهرة” لنجيب محفوظ، وخماسيّة “مدن الملح” لعبد الرحمن منيف وغيرها، فتاريخ الرواية الطويل لا يخلو منها وهي كثيرة. بينما الرواية القصيرة أثبتت حضورها بقوّة تنوّعها وبصياغة مُبهرة مثل “المسخ” لفرانز كافكا، و”الغريب” لألبير كامو، و”صمت البحر” لفيركور، و”بيدرو بارامو” لخوان رولفو. والمثير أنّها بلغت أهدافها، واستطاعت أن تقول ما ترغب بإيصاله من دون تطويل وعنعنة وثرثرة، حسب المؤيّدين. وإذا ربطنا عصرنا الحالي وما يلوح بعده بهذا النوع من الرواية، فهذا يعني أننا سنغدو في “زمن النوفيلا”.

الرواية إنجازُ عملٍ نرضى عنه بغضّ النظر عن عدد الصفحات

ولئلّا ننسى، لا تقتصر أحجام الروايات على الطويلة والقصيرة، هناك المتوسطة الطول التي يتراوح عدد صفحاتها بين 250 و350 صفحة، وهي أغلب ما يُنشر في العالَم. وأيضاً التذكير بأن الكثير من الروائيّين كتبوا الرواية السمينة والنحيلة معاً، مثل هنري جيمس وتوماس مان وغيرهما.

المُستغرَب، ملاحظة أننا في العقود الأخيرة، حينما ضاعَف العالَم سرعته عدّة مرّات، لم تنعكس إيجابياً على روايات النوفيلا الرشيقة، وإنما بالتحديد على الروايات الضخمة التي أرهقت الكُتّاب والقرّاء، وما يُصيبنا بالدهشة أنها تُغطّي مجالات بيع الكتب المُتوزِّعة في أرجاء العالم، وتحظى بالأكثر مبيعاً. والمفارقة المُدهشة أنّ الروائيّين الكبار في الغرب السريع يكتبون الروايات البطيئة من النوع المتميّز بالسُّمنة، بينما روائيّو بلادنا في شرقنا البطيء، لا سيما الجُدد، يكتبون الروايات النحيلة التي تُراعي السُّرعة.

يعتقد بعض النقّاد أنّ الروائي هو الذي يُحدِّد حجم روايته قبل البدء بالكتابة، بافتراض أنه يُسيطر على روايته قبل العمل عليها، وهي فرضية مراراً ما أثبتت خطأها، فإذا كان الروائي يُقرّر، لكن هذا لا يعني أن الرواية ستنصاع له، غالباً ما تتّخذ الرواية مسارها، والروائي هو الذي ينصاع لها، فما يتداعى خلال عمله عليها يأتي من داخلها، ولو كانت مرجعيّتها ما يدور في رأس صاحبها، فالعملية ليست فرضاً مسبقاً، فالرواية كفكرة تنطلق من الروائي، ومهما كان مُسيطراً عليها، لكنّه طَوعٌ لها، بمعنى ما مثلما يمنحُها أفكارَه وتجربتَه ومهاراته، تأخذُه إلى مسالك لم تكن ضمن ما خطّط له.

ما يُسيء إلى الرواية هو الهيمنة المُطلقة للروائي، فلا يدعُها تتنفّس بحُرّية، خاصة إذا كان من ذوي النفَس القصير أو الطويل، ما يقولب الرواية مُسبقاً في حجم مُعيّن، مع أن الروائي لا يستطيع تحديد الحجم الذي يستجيب لحاجته في التعبير بشكل حاسم ونهائي. ولئلّا نبدو وكأنّنا نتكلّم عن الظاهر، لا عن الجوهر، فالرواية ببساطة إنجاز عمل نرضى عنه، بصرف النظر عن عدد الصفحات.

وكمثال، هناك كاتب حدّد بشكل تقريبي عدد صفحات ما سيكتبه، وكانت قصة قصيرة، قد لا تزيد عن عشرين صفحة، فإذا بها لم تكتمل إلا بعدما أصبحت رواية تجاوزت الأربعمئة صفحة. لم يكن ما حدث معه، سوى أن القصة فتحَت له منافذ لم تخطُر له، هل يتجاهلها، أم ينساق إليها؟

هذا الكاتب هو أنا، أما الرواية فهي “الضغينة والهوى”.