بعد مضي أربعين عاماً على رحيلها، ما تزال أم كلثوم متربعة على عرش الغناء، والأكثر حضوراً في عالم الموسيقى والطرب. لم يكن عبثاً تلقيبها بـ “كوكب الشرق”. احتلت منذ عشرينيات القرن الماضي مكانة لم يحلم أحد بمنازعتها عليها، مع كثرة اللواتي حاولن تقليدها. كانت محط إعجاب النساء والرجال في العالم العربي، فدعيت بـ “سيدة الغناء العربي”.

سايرت الأجيال والعشاق من جميع الأعمار، وتألقت في العهود كلّها، زمن الاحتلال الإنجليزي، العهد الملكي، ثورة يوليو.. وما بعدها. كانت مصانة على الرغم من الحسّاد والقيل والقال والشائعات التي رافقت حياتها.

توجت الريفية القادمة من الصعيد، قرية طماي الزهايرة، المطربة الأولى في القصر الملكي، وكادت أن تتزوج خال الملك، لولا ثورة العائلة المالكة عليه. استجابت خلال حرب فلسطين 1948 لرغبة البك باشي جمال عبد الناصر مع رفاقه الضباط المحاصرين في الفلوجة، وغنت لهم “غلبت أصالح في روحي”، ليسمعوها في حفلتها التي تنقلها إذاعة القاهرة.

عندما قامت ثورة 1952، كانت أم كلثوم تصول في أمجادها، مطربة الملوك والشعب معاً. حاول الضباط الأحرار إقصاءها عن عرشها، لكن عبد الناصر الذي كان تقديره لها اعترافاً بفنّها، لم يسمح بأن تمسّ مكانتها.

سرعان ما اتخذت موقعها في الثورة، غنت لها ولزعيمها، وكانت الأكثر وفاء لهما، ولعالم جديد يبنى بسواعد العمال والفلاحين. حتى أنه عندما وقعت نكسة 67، اعتبرتها هزيمتها الشخصية، لم ترضخ لها، خرجت من عزلتها، وانطلق صوتها يتردد في العالم، تكسر قيود الهزيمة “أعطني حريتي أطلق يديّ”.

غنت أم كلثوم لبهجة الحب وعذاباته وفاضت في التعبير عنها إلى ما يفوق حدود الهيام والشقاء والوله والشغف. شهرتها لم تأت من البلاط الملكي، ولم تمنحها إياها الثورة، فنها وحده كان سبيلها إلى المجد. كانت مثالاً على العظمة الحقيقية، تجلّت في عبقرية الصوت وموهبة الأداء. هبة ما أسهل موتها وما أصعب تجسدها في شرقنا العربي. العبقرية وحدها لا تكفي، إذ هي قابلة للذبول والموات، إن لم يتعهدها صاحبها بالاجتهاد والثقافة.

لم تتربع أم كلثوم على القمة، إلا لأنها وقفت على أكتاف العمالقة. استنهضت عبقرية موسيقيين وشعراء، دفعهم عشق صوتها إلى إبداع أفضل ما لديهم، عبّر عنه السنباطي أعظم من لحن القصيدة: “تلاوين صوتها حرضتنا على تجاوز قدراتنا والتفوق على أنفسنا”.

لم يكن غناؤها مجرّد أداء طلي جميل وآسر، تجلّى إعجاز صوتها بالبلاغة في الإحساس باحتراقات الغرام، وشقاء المحبّين، وتصوير الشوق، والهجران، والأسى، وحلاوة اللقاء، والعذاب بنيران الشك والغيرة: “أكاد أشك فيك وأنت مني”، وصورة الحبيب: “واثق الخطوة يمشي ملكاً”، وفي قوة الكبرياء: “مصر التي في خاطري وفي دمي”… وروعة الأصيل. صوت مما قيل فيه إنه يجعلك تحس بالحنين إلى عذابات الحب.

محظوظ من عاش في زمن أم كلثوم، زمن عبد الناصر، زمن العرب.