الحرية شرط الإبداع، مقولة معتمدة، أما أية حرية، وما حدودها، فمعتّم عليهما. الإبداع يحظر هذه التساؤلات. بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، انزاح الرعب عن الصدور، هتلر انتحر، موسوليني شُنق، ستالين تمترس وراء الستار الحديدي. وبذلك أصبح التطلع إلى الإبداع مطلباً مشروعاً بموجب حرية باتت مطلقة، وبلا مخاوف.

في عام 1948، صدر بيان في صحيفة كندية لمجموعة من الفنانين يدعو إلى عدم الخضوع لإملاءات الدين، ولا لجميع أشكال الضغوط الاجتماعية، ويشير إلى أن الفن ينبغي أن يكون حرّاً، وأن يشمل الحياة الخاصة… فهجروا أبناءهم مستلهمين ما قرأوه في كتاب “إميل” لجان جاك روسو، ومقتنعين بأن المدرسة والمجتمع يدمّران الأطفال، ومن الأفضل تركهم يكبرون وحدهم، والتفرغ للفن والإلهام.

أحدث روسو ثورة في المفاهيم التربوية، وأعلن حقوق الطفل، وانتقد أساليب التربية القاسية التي تضحّي بالحاضر مقابل مستقبل غير واضح المعالم، رافضاً التربية التي تكبّل الطفل، تجلب له التعاسة، من أجل سعادة آجلة، قد لا يتاح له التمتع بها. حذّر أيضاً من العقاب والدروس المملّة، وارتأى ترك الأطفال للطبيعة كي تقوم بتربيتهم بحرية. فأسلم أطفاله الواحد تلو الآخر إلى مؤسسة للأطفال اللقطاء، وتفرّغ للعيش في ضيافة قصور المعجبين به من الأرستقراطية الفرنسية.

” في سنواته الأخيرة عبّر روسو عن ندمه لأنه تخلص من أطفاله”

بالعودة إلى الذين وقعوا البيان، عبّر أحدهم عن هذه التجربة المتخففة من رعاية الأطفال قائلاً: “إنني أعيش حالياً تجربة تتاح لي للمرة الأولى، وأشعر أنها ستحمل لي أمراً حاسماً ونهائياً. هذا اليقين تجاه نفسي يفتح لي كل الممكنات. إنني لا أشعر بضرورة الأخلاق، أو المبادئ، لا عقيدة، ولا دين. ليس لدي أي استعداد للبحث في الأخلاقيات”. ودافع هؤلاء عن إهدار حياة أولادهم بالقول: “لن نهدر حياتنا من أجلهم”. كان كل منهم يريد أن يحقق ذاته، وانتزاع الفرصة لتنمية مواهبه في جو من الحرية خال من المسؤوليات… الإبداع يتطلب حريات غير منقوصة.

في السنوات الأخيرة من حياته، عبّر روسو عن ندمه لأنه تخلص من أطفاله، وأحس “أن الرجل الذي يستطيع تربية أولاده تحت بصره، رجل سعيد جداً”، وكتب إلى أم شابة: “إن أجمل أسلوب ممكن في الحياة هو الأسرة، فما من شيء يندمج معنا بأشد وأثبت من أسرتنا وأبنائنا. لكن أنا الذي يتكلم عن الأسرة والأبناء، سيدتي، أرثي لأولئك الذين يحرمهم قدرهم القاسي من هذه السعادة، أرثي لهم إن كانوا عاثري الحظ فقط، ومزيداً من الرثاء لهم إن كانوا مذنبين”. روسو كان مذنباً.

بعد، بمرور خمسين عاماً على بيان الفنانين، ظهر فيلم وثائقي بعنوان “أطفال الرفض الشامل”، حققته ابنة لوالدين من الموقّعين عليه، يتتبع مصائر الطفال الذين هجرهم آباؤهم، ثلاثة من بينهم انتحروا، وعديدون أصيبوا بفصام الشخصية ويعالجون في مصحات عقلية، والبقية يعيشون محبطين مهمّشين.

الأم الفنانة اعترفت لابنتها: “لقد ذهبنا أبعد مما يجب، بأسرع مما يجب”. يعمل الفنان في مختلف الظروف، وأقسى الأوضاع.

لا حرية عندما نتحرر من مسؤولياتنا، ثم هل ما نتج من إبداع يعادل الخراب الذي قضى على مستقبل أولادهم؟