تركَّز الاتهام خلال ثورات الربيع العربي على الروائيّين، بالتعدّي على قِصَص الثورة بلا دراية، وكان من جرّائه تدفُّق سيلٍ من الروايات تُعنى بالربيع الذي أصبح جحيماً. من جانب آخر، امتُدحت روايات تطرّقت إلى الثورة والحرب لخلوّها من الدماء والأشلاء، بالتذرُّع تارةً بالإنسانية، وتارةً بالحياد، أو بالفنّ. لم تغب عن هذا المديح الحقائق ولا الادعاءات؛ فالأمر ليس تنظيف الرواية من الأسلحة والخراب، ولا إغراقها بالقتلى والمعتقلين، فلا هذا امتياز، ولا ذاك نقيصة.
في الواقع، صدرت روايات عملت على هذا النهج، ليس تقيةً، بل وجد أصحابها فرصةً للإعلان عن عدم انحيازهم إلى طرف، وعلى أنهم الحكَم على الثورة والنظام معاً. أمّا عن الضحايا والمجازر، فلولا بعض الإشارات لظننتَ أنّها تجري في رواندا أو البوسنة، لا في سورية أو العراق. كان هذا من حسن التخلُّص من حقائق المأزق السوري، فمن طرفٍ أدانوا الثورة، وبالمقابل رجال الأمن، عِوضاً عن النظام، وأوقعوا في الأذهان أنهم ضدّهما، ما دام بوسعهم التنصّل من أحدهما عند اللزوم، وهي لعبة معقّدة، أتقنوها من قبل، عندما كانوا تقدميّين يهاجمون النظام الفاسد، وفي الوقت نفسه يرتعون في أحضانه.
هل يجوز تجنُّب الحقائق بحجّة إبعاد الأدب عن السياسة؟
هذا أسلوب في كتابة الرواية، وإن افتقر إلى الأمانة، مثلما إذا دارت أحداث رواية في العشوائيات، ولم يعرف القارئ إن كان في ضاحية الـ86 أو ضواحي كوالالمبور، لن يدرك أن الفقر والبطالة ليسا من إهمال السلطة، ولا من إطلاق أيدي المسؤولين في النهب. أمّا المهمَّشون، فمجرّد بشر في القاع صادف أنهم يعانون من الإجحاف. وفي حال كانت الرواية عن العلاقات الجنسية، فالبقاء في مناخ التسيُّب الجنسي، لئلا يصطدم الروائي بالفساد السياسي الذي يدفع فتيات إلى بيع أجسادهن، لئلا تتعارض هذه الفجاجة مع حشمة الإباحية الطليقة.
فللروائي الحرية في الكتابة عن الإباحية والدفاع عنها، والتباهي باختراقه تابو الجنس، لكن يجب أن تكون الإباحية للإباحية فقط، ولا دوافع غيرها، ماذا لو خالطها الفقر مثلاً؟ هذا مستهجن، وإلا فقدت الإباحية إباحيتها النظيفة، واشتبهت بالعهر، إنها للمزاج فقط، واكتشاف عوالم الشهوات الجهنمية، لكن لا أسباب ولا مسبّبات، ولو كان كمبرّر للخروج عن جادة التزمّت.
لم يكن ما سبق إلّا مدخلاً إلى الروايات التي تطرّقت إلى بنية الأنظمة الدكتاتورية، ووُجّهت لها انتقادات من باب أنه من السابق لأوانه التعرّض للثورة والحرب. أما الضحايا فيمكن اعتبارهم، مؤقّتاً، إفرازاً لحياة نهايتها الموت، بالتالي الثورة ما هي إلا زلزال. أمّا الخراب الحاصل، فيمكن تشبيهه بعوامل الحتّ في الطبيعة، أي يُستحسن إبقاء الفاعل معلَّقاً… لماذا؟ لأنها تحتاج إلى دراسات موضوعية، ثم إنها شأن التاريخ.
بوسع الروائي الكتابة عن أغوار النفس من دون الالتفات إلى الخواء الروحي، والحبّ من دون المساس بالظلم الاجتماعي، والسجون من دون شُبهةٍ تحيلنا إلى التعذيب، والضحايا من دون الإشارة إلى الكيماوي والبراميل المتفجرة، والجوع من دون التعرّض إلى أثرياء الحرب والنهب… لماذا؟ لأنّ اجتنابها يحفظ له عالم الرواية البهيج، عالم المتعة الخالصة، والإتيان عليها يوقعنا في حظيرة العنف، ما يُفقد الأدب مكانته الإنسانية.
وهكذا، لا يجوز للروائي تسييس رواياته بالتعرّض إلى موضوعات راهنة، تتساقط فور حدوثها. أمّا الغرام والذات والجنس والعواطف، فموضوعات أبدية تهمّ البشر جميعاً بصرف النظر عن جنسياتهم، أكانوا من القَتَلة أو الضحايا. بينما الرواية السياسية، التي لا تنأى عمّا يحدث، فتموت في اليوم التالي مع الحدث نفسه.
لم يحصل هذا الأخذ والرد، أو ما يشبهه، إلا بعد هزيمة الربيع العربي؛ إذ حان الوقت للتشهير بالذين تجرّأوا وكتبوا هذا النوع من الرواية، وهي في أغلبها تجارب حقيقية، تنفع مرجعيات وشهادات وسرديات مغايرة، لكن مع حدوث انتكاسات، وتصلُّب في الدكتاتوريات، أصبح بعض النقّاد أُجراءَ للأنظمة، برتبة مثقّف حداثيّ، أي يصحّ له الانقلاب على كل ما دعا إليه.
أمّا السؤال فهو: هل يجوز كتابة رواية تتجنّب الحقائق، أو تخفيها، بحجّة أنّ السياسة ليست شأن الأدب، وتسيء إلى الرواية والروائي؟ نعم، الرواية ليست سياسة، لكنها تُعنى بالحقيقة، لكن ماذا إذا صادف الروائي حقائقَ كانت سياسية؟
ليس لدى الروائي وسيلة يعبّر من خلالها سوى الرواية، إذ كلّ ما في الحياة يعنيه، وإذا اتّخذ موقفاً فهو موقفٌ أخلاقي، وإذا لم يفصل بين السياسي والأخلاقي، فلأنّ الحقيقة لا تفصل بينهما. فالرواية مفتوحة على الحقيقة مهما كانت هذه الحقيقة، وبما أن الروائي يكتب عن البشر، فلا تمييز بين حقائق تُقال وحقائق لا تُقال.
-
المصدر :
- العربي الجديد