لم تعد الكتابة الروائية عن الثورة، في ظل الانفجار الكتابي والمبالغة المضطرة في البيوغرافيا تحظى بالجاذبية ذاتها قبل سنوات لأسباب عدة لا تتحملها هذه المادة، وهو ما حدا بكثيرين لرسم صورة غير متفائلة لمستقبل الرواية السورية. لكن “تفسير اللاشيء” لفواز حداد تدحض الفرضية السابقة لما تكتنفه من تشويق وإثراء للذائقة والمخيلة بمشاهد أقرب ما تكون إلى دراميةٍ تتصاعد ذروتها وتهبط في مواقع مختلفة تاركة القارئَ أمام احتمالات متعددة وسيناريوهات متشابكة عن مآلات سير الأحداث وخاتمة الحدُّوتة التي يقول صاحبها إنها واقعية.
زجُّ مفردة “اللاشيء” في العنوان بهذه الطريقة يدفع فوراً للتساؤل عن المغزى، هل سيقدم الكاتب تحليلاً سيكولوجياً تخصصياً تتجنب الكتابة الروائية الغوصَ فيه بهذه العلمية المفرطة أم له مآربُ أخرى؟ على أهمية إيلاء الجوانب النفسية للفرد والذات السورية تنشغل الرواية -كما يوحي فصلها الأخير- بمسألة السردية والصراع على كتابة التاريخ بعد الثورات وتمترسات المثقفين السياسية والانتهازية من هذه العملية. هذا المنحى ليس جديداً على فواز حداد الذي اختص بالرواية السياسية وخصص جلَّ جهده ووقته في سبيل ذلك من خلال أعمال عدة أهمها “خطوط النار”، و”السوريون الأعداء” و”الشاعر وجامع الهوامش”. لكن ما يميز “تفسير اللا شيء” أنها تُكتب -كما تقول ضمنياً- في زمن الهزيمة العسكرية والتراجع السياسي للثورة، فكيف نكتب خيباتنا البنيوية روائياً وكيف ننتصر لذواتنا المتهتكة أمام هذا الخراب؟ الجواب يكمن في كيفية تقديم الحكاية لكي لا تعيش في الماضي ولا في تكرار الرواية والسرد.
أتخيلك أبي في فراشي
ينجح صاروف، بطل الرواية والمثقف الكبير في إهمال سؤال الثورة عند نشوبها، حدث لا يعنيه بعد أن استقرَّ مادياً ومعيشياً بحصوله على وظيفة محاضر في إحدى الجامعات الخاصة التي تكاثرت كالفطر بداية الحرب. أضحى منشغلاً بزوجته الشابة، طالبته السابقة، وبالفلسفة التي أمَّنت له مريدين ومعجبين يرتادون مجلسه لينهلوا منه ثقافة باتت تتعمق، هروباً ربما، في مسائل فكرية لا يدركها الواقع. كلُّ ما جرى في سوريا من أهوال ليس حدثاً عنده، تكفي إجابات من قبيل: تسلّحت، تأسلمت، وتطيّفت… للهروب من الإجابات المكلفة ووجع الرأس.
تنقلب الدنيا رأساً على عقب عندما تقرر زوجته سهير الانفصال عنه، ويعجز بكل وسائله الإقناعية وتحليلاته الفكرية وقدراته عن إعادتها إلى بيتها. هي إنجازه الوحيد في هذه الدنيا خارج مشروعه الفكري غير المنتهي الذي سيحقق خرقاً معرفياً عندما يُنشر، حتى وإن تأخر.. لا وساطات تنجح، ولا تعهداته بتدارك أخطاء الماضي، غير المعروفة بالنسبة له أصلاً، تقنعها.. ونظراً لمكانته وصورته التي يرسمها لنفسه المحمّلة بإطراء معجبيه، يُسخِّر صاروف كل قدراته التشخيصية والتنبؤية لمعرفة دوافعِ سهير لتركِه، وهو الذي فعلَ معها من المعروف والصنائع ما يحتاج إلى عُمرٍ لتقدره.
-
المصدر :
- تلفزيون سوريا