الإخوة الكرام القائمون على مجلة “العربي القديم”، كنت قد قرأت مقالاً، ورد في العدد 14 (أب 2024) من السنة الثانية من مجلتكم بعنوان “الرئيس الجليل ونجله”، بقلم المرحوم زهير الشلق، وكأني فهمت أنه منقول عن مقالة له في صحيفة (الشرق الأوسط)، نشر سنة 1989، فوجدت فيه مقولة نسبت للرئيس الجليل زوراً وبهتاناً، ثم طرح المرحوم تساؤلاً تاريخياً، ادعى أن أحداً لم يسبقه للإجابة عنه، فحاول هو التكهن بالإجابة، ثم أخطأ الهدف تماماً في مرماه. وأشكر لكم أن سمحتم لي بكتابة هذا النقد لتلك المقالة.

أما ما نسب للرئيس الجليل دون صحة، فهو تأييده لانقلاب حسني الزعيم على شكري القوتلي، الذي وقع في نهاية شهر آذار سنة 1949م، وكان فاتحة الانقلابات العسكرية في بلادنا، وهو منقول من كتاب الصحفي بشير العوف: “الانقلاب السوري: أسراره ودوافعه ومراميه، وكيف تمت حوادثه”، وفيه جاء في الصفحة 161:

“وفي اليوم العاشر من نيسان الحالي، تحدث فخامة السيد هاشم الأتاسي في مجمع من عيون البلاد، فقال:

«إني أؤيد هذا الانقلاب تأييداً مطلقاً بدون قيد أو شرط، وإني أنصح كل نائب وكل سوري، أن يؤيده ويتعاون مع أبطاله. إن هذا الانقلاب كان أمراً لا مفر منه، بل كان أمراً محتوماً، ولو لم يقع اليوم لوقع غداً؛ لأن القائمين على الحكم في سوريا قد اشتطوا، واندفعوا في هذا الشطط، مما كان سيؤدي حتماً إلى شطر الأمة شطرين. وإني أشكر الله تعالى على نعمه وآلائه، بأن تم هذا الانقلاب على يد جيشنا الباسل، بدون إراقة نقطة دم أو إطلاق رصاصة واحدة».

قلت: وهذه الكلمة المزعومة، لا تخلو من دلائل التلفيق الظاهرة على لسان الرئيس الجليل، منها عبارة “التأييد المطلق بدون قيد أو شرط”، وهو أمر خرج بها ملفقها تماماً عن سلوكيات الرئيس الجليل المألوفة، والذي طالما عارض تسلط العسكر، واجتنب طيلة حياته التأييد المطلق، غير المقيد، لأي جهة كانت، وهو تصرف غير مسؤول يتنافى مع ما عرف عنه من اعتدال وتجنب المواقف المتطرفة، ومنها عبارة اتهامه حكام سورية بالشطط، وهي أيضاً بعيدة كل البعد عن شخصيته التي اتصفت بالحيادية والوسطية، وتركت كل أشكال التهجم الكلامي أو التعنت السياسي، ومنها أيضاً عبارة “جيشنا الباسل” الغريبة على مفردات الرئيس الجليل، التي كان أكثر من يرددها، هم الضباط المنقلبون في بيانات انقلاباتهم، دليلاً على أن كاتب هذه الكلمات لم يكن إلا من الذين أملوا على العساكر بيانات انقلاباتهم، أو انتدبوا لكتابة برقيات التأييد لهم باسم الجماهير. ومما يدل على كذب من أوردها، أنه لم ترد في أي صحيفة أو جهة رسمية، في أثناء حكم الزعيم أو بعده أي برقية أو رسالة تأييد من الأتاسي، بل زعم مصطنعها، إنها قيلت “في مجمع من عيون البلاد”، دون التنويه بمكان الاجتماع وسببه، أو سرد لأسماء حاضريه، ومن غير عزو الرواية إلى من رواها مباشرة عن الرئيس الجليل، فهي رواية دون إسناد، من باب قال وقيل، ومن هذا القبيل. ولو أن الرئيس الجليل لمّح بأي تأييد للانقلاب لأي جهة كانت، لطار بذلك حسني الزعيم نشوة وفرحاً، ولنشر كلمة التأييد في كل الصحف المؤيدة له لإضفاء الشرعية عليه! ولك أيها القارئ أن تقارن كلمة التأييد هذه ببيانات الأتاسي المعروفة التي كانت قبل وبعد هذا الانقلاب، لتعلم أن كاتب هذه، ومؤلف تلك، صاحبا ثقافتين مختلفتين كل الاختلاف، بل إن شئت قارن كلمة التأييد المزعومة هذه بكلمات أخرى وردت في ذات الكتاب المنوه به للصحفي المذكور، سواء كانت خطابات ألقاها حسني الزعيم، أو بيانات أخرى في تأييد انقلابه، تجد الأفكار فيها قد تكررت: فالانقلاب حدث دون طلقة واحدة، وكان أمره محتم الوقوع إن عاجلاً أو آجلاً، وقد خلّص الأمة من هلاك محقق، كادت الحكومة السابقة أن توردها فيه، مع كثرة وصف الجيش بالبسالة، فتعلم -إذ ذاك- أن كل ما ورد في الكتاب من بيانات تدور في محور واحد، بل تكاد تنطق بأن كاتبها إنما هو شخص واحد! وناهيك عن دليل اصطناع هذه الكلمة معرفة أن كتاب العوف المذكور، إنما كُتب ونُشر في عهد هذا الدكتاتور العسكري، حسني الزعيم، لا شك بمباركته وتحت إشرافه، رافعاً أصابع التهمة نحو نية مؤلفه، ومدخلاً للريبة على صفائها، وجالباً للشك في صحة أكثر ما روي فيه!

والصحيح أن الرئيس الجليل، الذي وهب حياته لصيانة الحياة الدستورية، وحماية الأسس التي تقوم عليها الديمقراطية، ما كان ليرضى بمغامرات انقلابية تعارض هذه القيم والمبادئ، ولا أن يُظهر التأييد لأي عمل، من شأنه أن يعطل مؤسسات الدولة لأجل أغراض شخصية، أو أن يقضي على الحريات في يوم وليلة، حتى لو استهدف هذا العمل خصومه السياسيين، وفي سيرة حياته -قبل هذا الانقلاب وبعده- مواقف كثيرة تدل على أنه كان أكثر السوريين فهماً لهذه المبادئ وحرصاً عليها، سواء في زهده المتكرر في كرسي الرئاسة، أو في شدة حلمه وحسن تعامله مع خصومه السياسيين، أو في مواجهاته المفتوحة مع أعتى الضباط الذين أخلّوا بركائز الدستور. فهو الذي طالب بعودة القوتلي من منفاه، قبل أن يُنتخب الأخير رئيساً للجمهورية سنة 1943، وهو الذي منع رفاقه في الكتلة الوطنية -بكل حزم- من سجن الدكتور عبدالرحمن الشهبندر، بالرغم من أن الأخير كان كثير الانتقاد والتهجم على الكتلة الوطنية، وهو الذي وقف في وجه أكبر دكتاتور في ذلك العصر، الضابط أديب الشيشكلي، وفي وجه أكثر العساكر تسلطاً وشراً، عبدالحميد السراج وطردهما من مكتبه، لما جاء كل منهما بطلبات غير دستورية، وهو الذي استقال غير مرة بإرادته من مناصب الرئاسة، ورفض العودة إليها، ما دام الفرنسيون يجوسون في طول البلاد وعرضها، وهو الذي كان طرفاً في أول وآخر عمليتين سلميتين لتسليم الرئاسة وتبادل السلطة، وفي آخر عملية، واللتين لم يكن في تاريخ البلاد سواهما!

ولعل أكبر برهان على أن كلمة التأييد المنسوبة إلى الرئيس الجليل، لم تكن إلا مصطنعة، هو ما أورده الأمير عادل أرسلان –الذي اتخذه حسني الزعيم مستشاراً ووزيراً- في كتابه “ذكريات الأمير عادل أرسلان عن حسني الزعيم”. كتب الأمير: “كنا في بداية الانقلاب نكافح في سبيل رفع الظلم عن بعض رجالات البلاد وأحزابها، فتارة نوفق في إنقاذهم من الاضطهاد، وطوراً نفلح في إطلاق سراحهم، وكنا أحياناً نخفق، جاءنا (يعني حسني الزعيم) ذات يوم، يقول:

-هاشم الأتاسي يعقد الاجتماعات في داره بحمص، والأتاسي والمجتمعون عنده يدبرون الدسائس ضدي، ويكيدون لي. قررت إصدار الأمر باعتقاله.

ونهضت عن كرسيّ مذهولاّ، وقلت له:

-تريد أن تعتقل هاشم الأتاسي؟ ماذا أصابك؟ إن بيت الأتاسي في حمص مفتوح للناس منذ أجيال، يترددون عليه في كل يوم، ولم يفتحه الرئيس هاشم في عهدك، فحذار أن تمسه بسوء.

وأخذ الزعيم يتمتم بغضب، وما لبث أن أرسل تهديداً إلى حمص، يمنع تلك الاجتماعات” أ.ه (ص 45).

قلت: ولا تعجبن، إذا عرفت أن الأمير كان من الذين تعاونوا بادئ ذي بدء مع حسني الزعيم، بُغية توجيهه واحتواء طيشه وكبت رعونته، فكان نائباً لرئيس حكومته، ووزيراً لخارجيته، ثم ما لبث أن تركه بعد أن تمادى في غيّه.

فإن اعتقدت صائباً أن هذه الكلمة، إنما انتحلت على لسان الرئيس الجليل، ونسبت إليه دون حق، علمت مدى الزلل الذي وقع به الأستاذ زهير الشلق، لما جعل تأييد الرئيس الجليل لانقلاب حسني الزعيم، هو الإجابة عن التساؤل الذي طرحه في آخر مقاله. أما السؤال، فكان: “هل كان تصريح الرئيس الجليل –في تأييد انقلاب حسني الزعيم- ترجيع صدى للموقف عام 1943؟”، والمعني بموقف عام 1943، هو عودة أقطاب الكتلة الوطنية –التي كان هو رئيسها- إلى الحكم، وانتخاب شكري القوتلي رئيساً للجمهورية، دون أن يجعلوا للأتاسي مكاناً في الحكومة الجديدة. وكان الأتاسي قد استقال سنة 1939 من الرئاسة، إثر نقض الحكومة الفرنسية للمعاهدة المبرمة سنة 1936. لعل الشلق في هذا الاستفهام التقريري، يلمّح إلى كون تأييد الرئيس الجليل لانقلاب حسني الزعيم على القوتلي سنة 1949 انتقاماً من رفيق النضال السابق والشريك في الكتلة الوطنية شكري القوتلي؛ لأنه لم يشركه في الحكم سنة 1943، بينما تقاسمه مع باقي أفراد الكتلة الوطنية.

قلت: وقد علمت أصلاً -من الحديث الآنف- أن الرئيس الجليل لم يصرح بتأييد الزعيم، ويكفي هذا نقضاً لتساؤل الشلق ولتلميحه. ولكن إن رمت الزيادة على ذلك، فلعلك تنظر في تصرف الرئيس الجليل، بعد أن سقط حكم حسني الزعيم بانقلاب الحناوي في 14 آب سنة 1949، وبعد أن التف الساسة والمدنيون حول الأتاسي، وطلب منه العسكريون القابضون على زمام السيطرة أن يستلم الحكم، ويؤلف وزارة انتقالية، تشرف على انتخابات جديدة، فما كان من أمر الرئيس الجليل؟ بينما كان أكثر الساسة والضباط يرون أن سلامة البلاد وأمنها لا تكون بإعادة القوتلي، بل بإشراف الأتاسي على المرحلة القادمة. كان للأتاسي ومعه رشدي الكيخيا رأي آخر مخالف، فقد اقترحا إعادة القوتلي إلى الحكم، واعتبار أن استقالته غير مقبولة؛ لأن حكم حسني الزعيم لم يكن شرعياً في أصله، إما أن يستمر القوتلي في الرئاسة، أو تشرف حكومته على انتخابات جديدة، وهذا ما صرح به الكيخيا للوزير والقانوني المعروف أسعد الكوراني، وذكره في مذكراته.

الأتاسي – بالرغم من خلافه السابق مع القوتلي، بسبب تعديل الأخير للدستور- ما فتئ يعتبر القوتلي رئيس البلاد الشرعي، لا يجوز تهميشه أو تجاهله، وهذا من شدة احترامه رحمه الله للدستور وشرعية الانتخابات، إلا أن الجيش وأغلب القوى السياسية في ذلك الوقت لم تكن راغبة في إرجاع حكم القوتلي، وقد أودى هذا الحكم بالبلاد إلى فوضى سياسية، فرضخ أخيراً لقرارهم. فهل ترى في هذا موقف رجل، يروم الانتقام من القوتلي، حتى إنه أيد انقلاباً غير شرعي عليه، لنقمة في نفسه؟ ثم ما يلبث أن يقترح عودة القوتلي إلى الرئاسة، بعد أن أمست طوع بنانه منقادة إليه؟

ثم هل غاب عن الشلق، أن الأتاسي بعد استقالته الطوعية من رئاسة الجمهورية سنة 1939، أبى أن يعود إلى الرئاسة ما دامت فرنسا تحكم البلاد، ولم يرضَ بأي منصب سياسي في تلك الفترة على الإطلاق؟ بل إنه رفض مرتين عرضاً من الرئيس الفرنسي شارل ديغول للعودة إلى الرئاسة، كانت أولاها في أواخر تموز (يوليو) 1941، لما زاره الجنرال ديغول في مقر نزوله في شتورا، وأعلمه أنه ينوي التعاون معه كرئيس للجمهورية السورية، فلما رفض ذلك، دون العمل الفوري بمعاهدة 1936 -التي ضمنت استقلال سورية التام خلال ثلاث سنوات- اضطرت فرنسا أن تسلم الرئاسة إلى من هو أطوع لها، الشيخ تاج الدين الحسني، ثم لما توفي فجأة الشيخ تاج في 17 كانون الثاني (يناير) 1943، وهو على كرسي الرئاسة، زار ديغول الرئيس الجليل في منزله بحمص مرة أخرى عارضاً عليه الرئاسة، فقوبل طلبه بالرفض تارة أخرى. فكيف لرجل أتته الرئاسة مرات تسعى، فكان أن أعرض عنها ورفض تسنمها، كيف له أن يحدث نفسه بها، لما رشح القوتلي نفسه لها، وفرنسا ما زالت جاثية على أرض الوطن، ثم كيف له أن يحمل في نفسه حسرةً على القوتلي لعدم إشراكه فيها؟

ثم ألم يعلم الشلق أن القوتلي ما رشح نفسه سنة 1943م لرئاسة البلاد، إلا بعد أن زار الأتاسي في منزله بحمص، ليستسمحه في هذا الترشيح، باعتباره رئيس الكتلة الوطنية وزعيم البلاد، وكيف يرشح نفسه لأعلى منصب في البلاد، وفيها الرئيس الجليل حي يرزق؟ أو هل نسي أن الأتاسي بارك للقوتلي ترشيحه مباشرة وأعلن فوراً تأييده، بل أصدر بياناً في ذلك التأييد بطلب من القوتلي، وما ذلك بتصرف رجل يتحسر على الرئاسة ويطلبها لنفسه. ولو كان الأتاسي يُمنّي نفسه بالرئاسة، ألا تراه رشح نفسه لها، أو نافس القوتلي عليها؟ لم يكن الأتاسي من الذين تقدموا بترشيح أنفسهم للرئاسة عام 1943، بل إنه لم يرشح نفسه للنيابة أصلاً، عاملاً بالوعد الذي قطعه على نفسه: ألا يتولى أي منصب سياسي وفرنسا في البلاد، ولكن ترك كرسي النيابة لنجله الدكتور عدنان، ففاز الأخير به دون صعوبة تذكر.

وأخيراً، يجدر بالذكر أن الأتاسي لم يبارك للقوتلي ترشيحه للرئاسة فحسب، ولكنه عمل على رأب الصدع الذي كان في الكتلة الوطنية، وكاد أن يحول دون وصول القوتلي للرئاسة، رامياً بنفوذه وراء القوتلي، للتقليل من الصراعات الناشئة بين التكتلات الوطنية المنشقة على بعضها في مدينة حلب خاصة. في تلك المدينة المهمة انقسمت الكتلة إلى فرق متنازعة ثلاث: فرقة الكيالي-المدرس، فرقة سعدالله الجابري المؤيدة للقوتلي، وفرقة رشدي الكيخيا، وناظم القدسي المعارضة، وبعد تدخل الأتاسي، ونقاشات دارت بين القوتلي والوطنيين بحلب، وقع زعماء حلب الدكتور الكيالي وسعدالله الجابري، وأحمد خليل المدرس، وحسن فؤاد ابراهيم باشا على وثيقة وطنية يتعهدون فيها على الوقوف صفاً واحداً في خدمة الأهداف الوطنية والإخلاص للبلاد، عاد بها القوتلي إلى دمشق، وامتنع عن التوقيع الدكتور القدسي وحليفه الكيخيا، واكتفيا بوعد القوتلي ألا يثيرا الاضطرابات التي من شأنها أن تؤثر على مجرى الانتخابات، وهكذا ضمن القوتلي مدينة حلب إلى جانبه، وتجنب المطبات الانتخابية التي قد تترتب عن انقسامات الوطنيين فيها، وكان للأتاسي دور أساسي في ردم هذه الفجوة. فهل هذا عمل من كان يضمر في نفسه النقمة على القوتلي لعدم إشراكه في الحكم، حتى حدت به إلى تأييد الانقلاب عليه؟