لم تكنِ الرواية في وارِد الكتابة عن الكتب، فالرواية كتابٌ بحدّ ذاتها، تعرّضت الى النكبات من الرقابة، ولم تقلَّ الأخطار التي تُحيق بها، ومنها قابليّتها للحَرق، فكانت رواية الكاتب راي برادبري “451 فهرنهايت”، متّخذاً عنوانه من الدرجة التي تحترق فيها الورقة من تلقائها، وقد كتبها عام 1953 دفاعاً عن الكتاب في العصر التلفزيوني، من واقعِ فعاليتِه في التأثير على المتفرّج الذي هو قارئ مُختطف للشاشة.
تأتي سيطرة التلفزيون من فرط جاذبيته، حتى أن خطره تجاوز الفيلم السينمائي. إذ لا حاجة لتذهب إلى دُور العرض كي تشاهدَه، إذ يكفي أن تجلس فوق الأريكة المنزلية، وأنت تأكل وتشرب. ما عدا – وهذا هو الأهم – تعدُّد الموضوعات التي يطرحها، من الأخبار إلى السياسة والعِلم والصحة والثقافة، فبدا وكأن ظهور التلفزيون يعني موت الكتاب. فهو ليس سيئاً إلّا بسبب سطوته، إنه دكتاتور، وإنْ كان طاغية لطيفاً يتسلّل برِفق، تضغط زرّاً فإذا بك سقطت بين أحضانه، يبسط هيمنته على العقل، ولا يقلُّ دوره عن تأثير المُخدِّر.
لم تكنِ المخاوف من التلفزيون صحيحة، فالشاشة لم تستبدّ بالعقل، أو تحُدّ من دور الكتاب، بقدر ما بعثتِ الحيوية في مجالات التلقّي، لم يكن هذا التشاؤم سوى أنه وسواس يُصاحب ظهور التكنولوجيات الحديثة. وسوف يتكرّر مع ظهور الحاسوب، وكأن الحاسوب سينافس القلم في الكتابة، كذلك مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، التي أفرزت الملايين من الكتاب وربما المفكِّرين الذين يلغون بكلّ شيء. فبدا وكأننا أصبحنا في غنىً عن الكتاب، مُستعيضين عنه بقراءة آراء من بضعة سطور، تمثّل خلاصة الحكمة، تعوّض عن قراءة عشرات الكتب، وتوفّر مناقشة لا يسمح الكتاب بها.
التهديد الأكبر للكتاب في العصر الرقمي كان الكتاب الإلكتروني، مع أنه لا يتميّز عن الكتاب الورقي، عدد الصفحات نفسها، كذلك ما يحتويه لا يختلف عمّا يحتويه الورقي، أما الثمن فأرخص، لا يكاد يحتلُّ حجماً، يُمكن لقرص صلب سعته واحد “تيرا”، احتواء مئات آلاف الكتب، بينما العدد نفسه يحتاج إلى بناءٍ ضخم من عدّة طبقات لاحتوائها.
عُزيت هذه المخاوف إلى الأجيال التي اعتادت على الكتاب الورقي، كما شكّل نوعاً من الارتباط النفسي. وبسبب الزمن، أصبح تاريخاً عزيزاً مضى في صحبة الكتاب، تتجلّى مظاهرها في طريقة تصفّحه والإمساك به، وملمس الورق وحفيفه، لن يكون التحوّل عنه إلى شاشة صغيرة، سوى غصة مؤلمة لا تقلّ عن فقدان صديق. مع الوقت، بدا وكأن الإلكتروني سيحلّ – لا محالة – محلّ الورقي، لكن مع الوقت أيضاً، لم يعوِّض الأول عن الثاني، فدُور النشر في العالم لم تتوقّف عن إصدار الكتاب الورقي، ولا حصل تقليصٌ في مطبوعاتها، ولا في الإقبال على الورقي، بل الملاحظ أن الإلكتروني أخذ مكاناً إلى جانب الورقي، وكأنما احتلّ مكاناً فارغاً كان بانتظاره.
وإذا التفتنا صوب بلادنا العربية، فلا بدّ أن يسترعي انتباهنا تكاثُر ظهور دُور النشر الجديدة، وارتفاع أرقام إصدارات الكتب، وتزايد نسبة القرّاء والقراءة باطّراد، إذ لم تعد تقتصر على الأدب من رواية وشعر. عدا التحوّل نحو التعامُل مع الكتاب الإلكتروني بتنزيل الكتب من مواقع الكتب المُقرصَنة، ما أسهم في تنشيط القرصنة نفسها. وإنْ شهدنا إغلاق مكتبات عريقة لبيع الكتب في بعض البلدان، إنما بسبب عوامل اقتصادية أرخت بظلّها على جميع مناحي الحياة ومنها الكتاب، كما حدث في سورية وإلى حدّ ما في لبنان، بينما ازدهرت معارض الكتب وأصبحت منافذ موسمية لبيع الكتاب، حتى أصبحت تقليداً مرموقاً يُراعَى في كلّ بلد، وأحياناً مع التسهيلات.
في الواقع، لا يمكن تحديد في ما إذا كان الكتاب الإلكتروني سيحُدّ من انتشار الكتاب الورقي، إلى درجة القضاء عليه، فالتهديد هذه المرة، يمس كيان الكتاب الملموس. أي وجوده، كورق وحبر، يُحمل باليد، ويحتلّ في المنزل مكاناً بارزاً، لا يجوز التخلّي ولا التنازُل عنه، وكأن السحر في الورق، ذلك الذي اكتشفته البشرية ووضعت فيه عصارة أجمل ما فكّرت فيه.
-
المصدر :
- العربي الجديد