يبدو تحرك النظام مؤخراً نحو السيطرة على درعا البلد مبرراً، فلم يبق من سورية سوى بعض البؤر خارج سلطته، قابلة لإشعال الثورة أو تجديدها، تختزن ثواراً مهزومين وناشطين إغاثيين، يحاولون إقامة سلطة معارضة للدولة، مستقلة بقراراتها، ليست أكثر من تشويش على النظام مثل المظاهرات ومقاطعة الانتخابات، ولم ينفع الحصار والاغتيالات في إخضاعها. حان الوقت أكثر من مرة لعودتها إلى الدولة، لكن تهيأت لها ظروف ساعدتها على المقاومة، والآن جاء دور المدافع والطائرات والدبابات، حتى أن روسيا الضامن الوحيد لهذا الوضع الشاذ والتي أشرفت على صياغة هذه التسويات، بدأت تتخفف من ضماناتها، ولا مانع جدياً لها من الإخلال بها، فالأوضاع الميدانية تغيرت، وآخذة بالتغير نحو ترتيبات نهائية في الاتجاه الصحيح، لكن روسيا ترددت مؤخراً، لم تحسم أمرها تماماً بعد، بسبب الضغوط الدولية، ولو كان على استحياء، وربما كان الكرملين يجرب بعض المساومة مع النظام لتيسير ما يعتقده بات ضرورة في حلحلة أمور الأزمة السورية التي تعاكسها طموحات النظام، تحت ضغوط من الإيرانيين المستعجلين لاقتحام درعا، والتغلغل فيها على نمط تغلغلهم مليشياوياً ومذهبياً في بعض البلدات السورية. أما المجتمع الدولي، فلم يضن على درعا باحتجاجات يعرف أنها لن تؤدي الغرض منها، فقد سبقتها حمص والغوطة إلى هذا المصير، وما سقوطها إلا تحصيل حاصل، ولم يبق على درعا سوى الاستسلام أو الصمود.
بعد عشر سنوات من الثورة والإرهاب والحرب، ما الذي تغير في سورية؟ لا شيء. ما زال الاستبداد على حاله، والفساد على حاله، والمخابرات هي ذاتها، والأزمات الاقتصادية الدورية ذاتها. ولم يتغير تشبث النظام بالحلول الأمنية والعسكرية، ما أدى إلى كارثة مستفحلة ما فتئت تزداد كارثية، فالعوامل متوافرة، طموح الروس للعب دور في العالم، وإخضاع الوضع السوري إلى مساومات مع الغرب، والشهية الإيرانية إلى السيطرة على القرار السوري المنصاع لها على الدوام، مع الطموح إلى الدخول إلى عمق النسيج السوري وتمزيقه. أما ما يسمع من رأس النظام وحاشيته والمسؤولين، فالكثير من اللغو والتضليل، فبينما ينعمون بما يدره عليهم الفساد من مال ورفاهية، يُترك الشعب السوري طعماً لأكاذيب لا تفلح في التغلب على البؤس الضارب في البلاد.
كان التغيير المطلوب، رحيل النظام سبب من أسباب الثورة والحرب والإرهاب، أو أن يغير سلوكه حسب اقتراح الأمريكان. طبعاً، لا يمكن للنظام تغيير سلوكه ولا التحكم به، هكذا جرت صناعته على مدى ثلاثة عقود. لم يرحل “الأب المؤسس” إلا بعدما صممه على هذه الشاكلة غير القابلة حتى للتعديل، وإنما نحو المزيد من التغول، فالنظام من دون التوحش الأمني، لا يغدو نظاماً أسدياً، لذلك كان ينحو دائماً إلى تغيير الشعب الصابر إلى شعب مطيع، ما الذي كسبه بعد سنوات الثورة والحرب؟ سورية المفيدة، التي يصح التعبير عنها بـالدولة الفاشلة.
تواطأ المجتمع الدولي مع الروس وتغاضوا عن الوجود الإيراني، على أمل إيجاد حلول للأزمة السورية، فالنظر إليها على أنها أزمة لا أكثر، يحيلها إلى قضية يمكن حلها بالمفاوضات والتنازلات والتهدئة والهدن، ومنع تسليح قوات المعارضة، مع أنه سبق للغرب تسهيل خروج الجهاديين من بلدانهم، والذهاب إلى سورية كساحة قتال على أمل التخلص منهم. فكانت بدايات إنهاء الثورة السورية على يد الإرهاب لا النظام المترنح. وهكذا دخلت القضية السورية في نفق التسويات والمؤتمرات وأستانة واللجنة الدستورية، لمجرد تضييع الوقت، خلالها قضمت مدن وقرى بعد تدميرها وإحالتها إلى خراب، مع ترحيل ونزوح وتبعثر ملايين السوريين في العالم. ما يضع العالم بالتدريج أمام أمر واقع، يتلوه أمر واقع آخر وهكذا.، بالتواطؤ مع الحكومات الغربية، وكأن هذه الحلول المؤقتة، تحت إشراف الروس، تبدو بقبول من السوريين جميعاً. ما يحل المجتمع الدولي من عقدة الذنب.
اليوم، صحيح أن القضية، تتمحور حول محاولة سيطرة النظام على درعا البلد، وجمع السلاح من أيدي الأهالي، والقبض على مطلوبين، وترحيل آخرين. كل هذه التهديدات، سيقاومها الأهالي، لكن إلى أي حد؟ وإلى متى؟ كأننا عدنا إلى المربع الأول، الدفاع عن الكرامة التي أشعلت الثورة من درعا بالذات، وفي جوهره اليوم، عدم عودة المدينة إلى تسلط المخابرات، والعيش تحت سطوة قانون الرعب والصمت، والاعتقال الكيفي، والاستدعاء إلى التحقيق، وإذلال الناس، والإعدامات والاغتيالات والتعذيب حتى الموت.
تعيش درعا البلد على خط النار، تحت حصار مفروض عليها منذ نحو شهرين، وقد قطع عن معظم أحيائها الماء والكهرباء، وتفتقد إلى الأدوية والطحين وحليب الأطفال. وتسُتهدف ليلا بقصف المضادات الأرضية والأسلحة الرشّاشة ومحاولات التسلل.
لا يستطيع النظام إلا أن يكون هو بالذات، لن يوفرها من كارثة إنسانية كما فعل في مدن أخرى، على حدودها تقبع الفرقة الرابعة وحزب الله والفصائل الإيرانية الطائفية. إذا اقتحمتها، فلا أقل من استباحتها بالقتل والتنكيل والتشريد.
ليس عبثاً أن هذا النظام مكروه ومحتقر من شعبه، إن كل من يؤيده، أو يقف إلى جانبه، مهما كانت مبرراته، إنما يقف ضد السوريين.
نعم، نستطيع القول، درعا ليست وحيدة، لكنها وحيدة فعلاً.
-
المصدر :
- الناس نيوز