من السهل تفنيد خطاب القسم الرئاسي برمّته، فالواقع لديه من الوقائع ما يدحض هذه التحفة الإنشائية غير المبتكرة، سورية المنكوبة لديها أكثر من دليل على ما وصلت إليه أحوالها، شهداء ومعتقلون وأصحاب عاهات، ومخيمات لجوء، ودمار بيوت ومستشفيات ومستوصفات ومشافي ميدانية… عدا الحواجز والإهانات اليومية. كل هذا شاهد على ما أصاب البلاد من بؤس. لم تكن جسارة الخطاب إلا في تكذيب ما بات يفقأ العين، والتحايل على كوارث يومية استمرّت طوال السنوات الثلاث الماضية، ومازالت على المنوال نفسه. لم ينجح الخطاب إلا في تطمين المؤيدين المطمئنين أصلاً إلى سلامة الإجراءات العقابية التي نالت من الذين نادوا بالحرية والشعب السوري الواحد، والمطالبة بالمزيد.

لم يُقل الكثير حول الخطاب، أغلب المحللين توقعوا إلقاءه من موقع الثقة والغلبة، فالخريطة القتالية تحسنت لصالح النظام. ولا بأس من استغلالها في إبراز الانتصارات على انها الحلقة الأخيرة في الطريق إلى الاستقرار المنشود، الذي سيضع حداً للفوضى التي رتع فيها المضللون من السوريين.

اللافت، لم يكن أن الرئيس بدأ ولايته الجديدة بمخالفة دستورية حيث أدّى اليمين في القصر في حين ينصّ الدستور على تأديته داخل البرلمان، فالمخالفات في عهد الرئيس الابن، بدأت منذ ما قبل ولايته الأولى، وكانت في التوريث، أعقبتها سلسلة من المخالفات العلنية، كانت تكريساً لنهج ساد بعدها، بالمخالفات التي تراكمت بعد الاحتجاجات في السنوات الأخيرة، إلى حدّ أصبحت تتفوّق على الجرائم العظمى، تجلّت بقتل السوريين عن سابق تعمّد وإصرار. كما لم تستوقف كثرة التصفيق الأنظار، فهي لم تخرج عن المألوف، الحضور جاؤوا للتصفيق أصلاً. وإذا كان أحدهم قاطع الرئيس وخاطبه واصفاً إياه بأنه هدية من السماء، فلكي يعيد المأثرة التي اجترحها سابقاً أحد نواب مجلس الشعب، بدعوة الرئيس ليحكم العالم، لأن سورية قليلة عليه. وهذا ما أثبتته الأيام، بإدخال العالم كله إلى سورية.

كما لم يكن من اللافت، إشادة الخطاب بالانتخابات باعتبارها إعلان انتماء حقيقي للوطن، ومعركة استفتاء على السيادة، والتهويل بها على أنها رصاصة موجهة إلى الإرهاب، وعلى الأصح توجيه ملايين الرصاصات عبر صناديق الاقتراع. مع أن الرئيس أبهر الموالين له، باستخفافه بالتهديدات الأمريكية التي ظهر أنها مجرّد كلام، أو بتحليلاته التي كشفت عن زيف الربيع، وما قيل إنه ثورة، كان عدواناً مخطّطاُ له على المنطقة. وأن ما حصل لم يكن مطالبات بالحرية والديمقراطية، بل إرهاب قام به مأجورون وهابيون، سهّل وجودهم قلة وعي المواطنين ما أدى إلى خلق بيئة حاضنة للإرهاب،. وإن خفف من ثقل الخطاب بالتنكيت على عنتريات أردوغان، وبندريات السعودية، وتحويل الإخوان المسلمين إلى إخوان الشياطين.

المنظر اللافت، كان في الصفوف الأولى حيث تربع في المقدمة رجال ونساء من صانعي الدراما السورية وأبطالها وقد غرقوا في الإصغاء والتفكير العميق في تحويل هذه السلسلة غير اللافتة، إلى مأساة مثيرة للوطن المدمّر، تصلح للمعالجة على الوجهين، تراجيديا حافلة بالفتاوى الدموية وقاطعي الرؤوس وآكلي القلوب. الوجه الآخر، الاستفادة منها في كوميديات هازلة تسخر من الحرية والعدالة، نكاية بالشعب المنكوب الذي صنع مأساته بيديه. تتبدّى في كلا المعالجتين العبرة والعاقبة، ما يقنع جمهور المتفرّجين المبتلي بالقصف والتهجير والحواجز. بأن الحرية لا تفيد، على نسق النداء الدرامي الشهير: الجريمة لا تفيد.

ما يدلّ إليه هذا الخطاب وما سبقه، أن الرئيس يريد أن يفرض الواقع الذي يتماشى مع رغباته، ولو كانت مضادة للواقع. عموماً الأوهام ومثلها الأحلام المستحيلة قد تنقلب إلى واقع، فيما لو تهيّأ لها من يعتقدون بها ويعملون من أجلها. وفي صناعة الدراما القدرة على ذلك لكنها لن تبلغ هدفها، ذلك يبقى في مجال الخيال المحض والترفيه المقيت. لكن لا ينبغي أن يغيب عنّا، أو ننسى أن هناك دولاً، وجيشاً مدجّجاً بالسلاح، وميليشيات طائفية، وخبراء يعملون على جعل هذا المستحيل ممكناً.