المؤامرات لم تبتدع “داعش”، جاءت من بطون الكتب والتأويلات المتشددة والسجون وانشقاقات القاعدة، ترفدها الطموحات لإقامة دولة إسلامية، باعتبارها الأولى والأدرى بها. ساعدت الحدود المفتوحة على استقدام مناصريها من القارات الخمس، والتحدي الطائفي الذي أحرز فيه الإيرانيون سبقاً مشهوداً في سورية والعراق. كان من جرائها انتشارها المتسارع على جبهات فرّطت فيها انقسامات المعارضة، إضافة إلى تردد العالم إزاءها، فالضجيج أعقبه الصمت، ما أوحى بمؤامرة دولية يسوغها تفتيت المنطقة، توّجت بإعلان الدولة الإسلامية ومبايعة الخليفة.

تدّعي الدول جميعها أنها متضرّرة من امتدادات “داعش”، الأوربيون والأمريكان اعتبروها الخطر الأكبر، لكنهم لم يفعلوا شيئاً لردّ هذا الخطر الأكبر. الحكومة العراقية والمعارضة السورية المسلحة، ومؤخراً النظام السوري المدجّج بالبراميل المتفجرة، عجزوا عن التصدي لها، رغم أنها مخترقة من أجهزة أمن الأنظمة والمخابرات الدولية. المؤامرة كانت في استغلال نجاحاتها في إضعاف المعارضة على الأرض، رغم التحذير المتواصل منها.

اليوم لا بديل أمام النظامين العراقي والسوري سوى الاصطدام معها، السلطة مهددة في كلا البلدين، بعد سيطرتها على الموصل في العراق، واستيلائها في سورية على حقل الغاز والفرقة 17، وممارسة عنف وإرهاب كانا في حدودهما القصوى بقتل أعداد كبيرة من جنود الجيش النظامي والتمثيل بجثثهم.

من جانب آخر، أسهم احتلال أخبار “داعش” لوسائل الاعلام، في تعريف العالم بالإسلام، على أنه إسلام الدولة الوليدة، والزعم بأنه الوجه الحقيقي الذي يتخفّى فيه المسلمون، فضحته “داعش” ووضعته موضع التطبيق العملي، بفرض الجزية، وحرق الكنائس، وتطهير البلاد من المسيحيين، وقطع رؤوس الكفرة، وأيدي اللصوص، وصلب المرتدين، ورجم الزناة بالحجارة حتى الموت، وختن الفتيات والنساء. تفجير المزارات والحسينيات، وهدم الأضرحة والمراقد، منع قص شعر الرأس والذقن، قطع أصابع المدخنين، المعاقبة على الإفطار بحرق شفاه المفطر ولو كان مسيحياً، وامتداد التحريم إلى الجمادات بتحجيب الدمى الرجالية والنسائية في محلات بيع الملابس الجاهزة خشية عبادتها فهي أشبه بالأصنام. وتتناول الحيوانات أيضاً بتحجيب ضروع البقر مخافة الفتنة… كأن المسلمين أسفروا أخيراً عن وجوههم.

هل هذه إشاعات وتهويل وأكاذيب؟ حسب ناشطين، الصور المبذولة على المواقع الالكترونية بعضها غير صحيح، منقولة من أحداث أخرى لا تمت لدولة “داعش”؛ قصة الكنيسة التي حرقت في الموصل، اتضح انها في مصر، وتحجيب التماثيل في واجهات محلات اﻷلبسة، مشكوك فيه، كما أن فرض الختان غير وارد، والجزية لا أساس لها… وعلى عكس مما يُروى عنها، حسب تحقيق في “النيويورك تايمز” تحوز “داعش” على الاحترام من المواطنين الذين أنهكتهم الحرب والجوع والانفلات الأمني من قتل وخطف وسرقات. فقد أصبح لمدينة الرقة لجنة خدمات إسلامية ومحكمة شرعية وشرطة جنائية وشرطة مرور. حافظت على توفر المواد الغذائية، وعمل المخابز ومحطات الوقود. بينما يتولى بنك الائتمان سلطة الضرائب، حيث يجمع الموظفون 20 دولاراً كلّ شهرين من أصحاب المحلات من أجل الكهرباء والمياه والأمن، يتلقى مقابلها أصحاب المحلات إيصالات رسمية مختومة بشعار “داعش”، الرسوم أقلّ ممّا كانوا يدفعون من رشاوى لحكومة الأسد. أحد الصاغة قال: أشعر وكأنني أتعامل مع دولة محترمة، وليس بلطجية. بينما قال مدرس متقاعد، ما تفعله الدولة الإسلامية يثبت أن لديها رؤية واضحة لإقامة دولة بالمعنى الحقيقي للكلمة. وأضاف: إنها ليست مزحة.

طبعاً، لا مزحة في أن تبني “داعش” دولة إسلامية بقطع الرؤوس والأيدي، تبييض صفحتها هو المزحة، غزواتها تدل عليها، حتى الجنون لا يشفع لها قتل مجندين شبان شاء حظهم العاثر أن تكون خدمتهم للوطن في هذا الظرف السيئ، وقبله قتل مئات المعارضين وناشطي الإغاثة. ملامح بناء دولة “داعش” السعيدة والعادلة بدأت بالظهور، ففي الرقة السورية رجمت امرأتان خلال 24 ساعة بتهمة الزنا، لم تنشر صور لهنّ لأن المرأة المرجومة تعتبر عورة، وأيضاً في تسيير أنواع مختلفة من الكتائب النسائية يحملن عصياً مهمتهن ضرب المرأة على ساقها إن رفعت طرف الجلباب وبان طرف البنطال الذي ترتديه تحته، مع مهمة إضافية، البحث عن زوجات للـ”دواعش”، على أن تكون الزوجة مختونة.

خطاب “داعش”، يعود بنا إلى مقولة قديمة، ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، وطالما خطابها ينفي العقل والحريات، فلا قيمة للإنسان، ولا حياة له.