مع أن الثورة الفرنسية، وهي واحدة من الثورات الكبرى في العالم، حملت شعار “الحرية، المساواة، الإخاء”، وبشرت الشعوب بالتحرر، إلا أنها كلفت كثيراً من دماء الأرستقراطية الفرنسية. حتى رؤوس صانعيها، لم تكف عن التهامهم الواحد بعد الآخر، ولم توفر من القتل أبناءها البررة؛ مارا، دانتون، هيبيرت، جوست، بروبسبير، وغيرهم. هؤلاء أيضاً كانوا وحوشاً ضارية، تيمناً بالثورة، الوحش الضاري الأكبر الذي أصابه العمى.
أصعب مراحل الثورة الفرنسية كانت تلك التي سمّيت بـ”عهد الإرهاب”، الممتدة من حزيران/ يونيو 1793 إلى تموز/ يوليو 1794. مرحلة اتصفت بقمع وحشي، ازدادت فيه أعداد الضحايا حتى بلغت ستة آلاف شخص في ستة أسابيع. كانت الإعدامات تجهز على عائلات بأكملها؛ إذ شاهد إيرفيه والد ألكسي دو توكفيل بعدما سجنوه هو وزوجته، أعمامهما وعماتهما وأبناء عمومتهما يساقون إلى المقصلة. لم يفلتا من هذا المصير، إلا بفضل الجدول الزمني لقائمة الدعاوى؛ إذ سقط بروبسبير قبل أن يأتي دورهما؛ أعدم بالمقصلة نفسها التي كادا أن يلقيا حتفهما بها، والتي ساق إليها الكثيرين قبلهما. بعد خروجهما من السجن، وجدا أن أغلب ثروة العائلة قد استنزفها الاحتيال الثوري الذي نهب البيوت وسرق الممتلكات وصادر الأراضي.
ما الذي حلّ بشعاراتها؟ تابعت الثورة مسيرتها، إذ لكل شيء ثمن، غالباً لا يكون عادلاً.
عاشت سوريا عهد إرهاب مديد. ومنذ نحو عامين، تعيش عهد إرهاب مفتوح ومزدوج؛ فالثورة ضاعت قبل أن تأكل أبناءها. بعض الثوار كان في تحقيق مصالحهم دافع أقوى من الفوز بالحرية، فتخلوا عن الثورة.
أمسى السوريون واقعين بين شراسة النظام وهمجية الإرهاب، كلاهما وفّرا الموت بالقنابل والمفخخات وبراميل المتفجرات والإعدامات الميدانية والتهجير، إضافة إلى خراب البيوت والسلب والنهب. انحطت وسائل الدولة إلى عمليات إجرام ومداهمة وتعذيب حتى الموت، وأيضاً إلى الاعتقال والخطف، والإثراء اللامشروع لرجالاتها وأعوانهم من الشبيحة. قبل الثورة كان الفساد الضارب لمفاصل الدولة قد أحال مؤسساتها إلى كيانات لا نفع فيها إلا لعملاء النظام من مسؤولين وتجّار منتفعين. كان من السهل إصلاحها، لو توفرت الإرادة، لكن من الصعب إعادتها إلى العمل على نحو صحيح، في ظل فساد فعّال، إذ لا قوانين تعمل بموجبها.
النكبة الكبرى كانت في الدين. الثورة الفرنسية لم تكن ثورة على الملكية المطلقة فقط، بل كان لديها توجه عميق ضد المؤسسة الدينية والكنسية. غالبية الثوار كانوا ملحدين من نتاج عصر التنوير، وأحد الشعارات المناهضة للدين كان “اخنقوا آخر ملك بأمعاء آخر ملك”. وكان أكثر التحولات إثارة تأسيس عقيدة دينية جديدة قائمة على عبادة آلهة العقل، إذ لا شعب بلا إله ودين، ما حقق للثوريين تغطية إلحادهم بإيمان عقلاني، استغلالاً لفوائد العقل والدين معاً، والتدريب على الخنوع بموجب توصيات دين متوهم جديد، كان محل استهزاء وشكوك غالبية الفرنسيين، فلم يشب عن الطوق.
الكارثة الروحية كانت في سوريا. أصبح الإسلام أربعة أديان؛ دين النظام الذي كشف عنه الشيوخ من موظفي الدولة، فبرّروا القتل على أنه وأد للفتنة، وحضّوا على الخضوع المطلق للحاكم، واعتبار الحرية رجساً من عمل الشيطان. الثاني، دين الإرهاب، بررت فتاواه، لـ”داعش” وأشباهها، القتل والصلب وقطع الأيدي والرؤوس.
والثالث جرى تسويقه بين الفصائل والكتائب الإسلامية حسب طبعة منقحة، وكان على عداء مع الديمقراطية، وكذلك العلمانية، التي لم تغفر له هذا الصنيع، سواء كانت هي التي بدأته أم لم تبدأه، فأعلنت بالمقابل عداءها للأديان في ثورة تمزقها الخلافات المذهبية.
الدين الرابع، الإسلام البسيط، ملجأ السوريين في عالم لم يكن آمناً طوال عقود أربعة؛ عالم يشرّع لرجال المخابرات انتزاعهم من أُسرهم في أيّ وقت، واقتيادهم إلى المعتقلات. هذا الملجأ لم يفلح في حمايتهم، إن لم يكن هو السبب، لكنه أفلح في طمأنتهم إلى الآخرة، وشكل في الحياة التي عاشوها خلسة، البوصلة الأخلاقية التي يسترشدون بها في حياتهم ومعاملاتهم اليومية، وحتى في علاقاتهم الشخصية والأسرية. لم يجدوا غيره يقف إلى جانبهم في ثورتهم، لذلك جهد أعداء الثورة في تشويهه، مع أنه لم يقدم للناس سوى العزاء، آنسهم لحظات النزع الأخير.
-
المصدر :
- العربي الجديد