لم يكن التعويل على خطاب القسم إلا من قبيل أمراض التفاؤل غير السليم، ويبدو أن المعولين عليه الذين في الداخل قد أصيبوا بالإحباط، مع أن القاعة التي شهدت الخطاب كانت مقنعة، فالإخراج السينمائي للانتصار، كان سينمائيا بحتاً، الدخول إلى القاعة يشبه دخول بوتين إلى قاعات مشابهة لإعلان انتصار ما. هذا ما نصحت به شركة العلاقات العامة الروسية كاستدراج للفأل الحسن، وقد لا تتعدى هذه الشركة سوى المندوب السامي الروسي. فالنظام يتعامل مع شركات أوروبية تنصحه بأحابيل غربية موثوقة أكثر، تخفف من هذا الطابع الفظ الوحشي المغرق في شموليته لهذا الإعلان السقيم، خاصة في انقلابه إلى مشهد ساخن ووديع بالتجول في حي شعبي وتناول “الشاورما”. بدا مثيرا للازدراء من فرط التزلف إلى شعب بات يعاني من الكذب أكثر من الفقر، لكن نادرا ما يسمع المعنيون بهذه الاستعراضات النصائح مع أنها مدفوعة الثمن، لكنهم يستأنسون بها، أحيانا مفيدة، لا سيما في مخاطبة الداخل، كانت تطمئن المؤيدين، أما الآن فكانت مقززة.

الخطاب، كما كان متوقعا، لم يحدث ولو نزرا يسيرا في اختراق العملية التفاوضية بدفعها إلى الأمام بل سجل خطوات إلى الوراء، لم تكن بنت لحظتها، كان إعلانها من قبل في التوقيت الصحيح، توجت سلسلة سبقتها على مدى أعوام من المماطلة، فالجهود التي بذلتها الأمم المتحدة في التوصل إلى حل سياسي ما زالت معرقلة تماما، لم ينفذ النظام بدعم من روسيا والصين شيئا من القرارات الدولية، ولا في تسريع وضع دستور جديد للبلاد، وإنما في المراوغة والمماحكة وتضييع الوقت، وهو انتصار هزيل لنظام لا يُجبر على شيء، فالدستور متروك له، بدعوى أنه يخص سيادة الدولة، دائما هناك ما يقال، ولو كان في الإطاحة بدستور قد يكون واعدًا للبلاد، والتشبث بدستور على قياس نظام ديكتاتوري، والادعاء بأنه وفق القرار 225، يهدف إلى أن “يضع سوريا تحت رحمة القوى الأجنبية ويحوّل شعبها إلى مجموعة من العبيد والمطايا”. كما لم تعد المطالبة بتشكيل هيئة حكم كاملة الصلاحيات مشتركة بين النظام والمعارضة تشرف على فترة انتقالية، واردة بأي حال من الأحوال، إلا إذا عمل عليها النظام بالذات، واستفرد بها، مقصيا عنها المعارضة. أما ما سكت عنه طوال عشر سنوات فاعتقال الآلاف وقتل الآلاف، وتهجير الملايين، ماذا عن المعتقلين في السجون؟ وماذا عن ضمان عودة اللاجئين من دون ابتزاز أموالهم، وبلا تحقيقات ومساءلات أمنية؟ ولا كلمة، أو إشارة عنهم.

لم يحتو الخطاب على حلول تخرج سوريا من هذا النفق المظلم، فالدعوة إلى انسحاب “قوات الاحتلال”، لا يعني سوى شرعية استدعاء الإيرانيين والروس، لكن ما الشرعية لنظام استدعاهم ليقتل شعبه؟ لا تمييز بين “قوات الاحتلال” ولو أن الأتراك دخلوا لحماية مصالحهم، والأميركان كي لا يكونوا خارج اللعبة، وإن كان دخولهم جميعا بدعوى القضاء على الإرهاب، التعويذة التي يجري التذرع بها، وفي المقدمة النظام الذي أسهم بصناعته وتفاقمه، الإرهاب لن يُستأصل ما دام حجة نافعة للتدخل في أي بلد، وحجة للقضاء على الاحتجاجات بالدبابات.

في خطاب القسم، جرى وصف المهجرين والنازحين والذين خرجوا من سوريا لأسباب اقتصادية أو طلبا للأمان، أو هربا من التجنيد، ولا يقل عددهم عن سبعة ملايين، تراوح وصفهم بين “المرتزقة” و”العملاء” و”المغرّر بهم

في خطاب القسم، جرى وصف المهجرين والنازحين والذين خرجوا من سوريا لأسباب اقتصادية أو طلبا للأمان، أو هربا من التجنيد، ولا يقل عددهم عن سبعة ملايين، تراوح وصفهم بين “المرتزقة” و”العملاء” و”المغرّر بهم” ودعوتهم للعودة إلى سلطة الدولة، “لأنّ الرهانات سقطت وبقي الوطن” وذلك للعمل على “تحرير باقي أرضنا والسكان المدنيين، وفرض سلطة القانون” بينما كان الجيش العقائدي يقصف السكان المدنيين في إدلب.

عموما، كان الخطاب موجها إلى الداخل الذي يعاني من افتقاد أبسط وسائل العيش، لم يعد بالوسع الزعم أن طوابير السيارات والخبز والوقود والغاز، وندرة الكهرباء والغلاء الرهيب، أزمات عابرة بقدر ما هي أزمات تتراكم فوق بعضها بعضا، لن يعزمها الخطاب إلى جريمة الحرب، بل إلى تجميد الأموال السورية في المصارف اللبنانية، والتي قدّرها بما بين 40 و60 مليار دولار، بينما لا تزيد على ستة مليارات دولار، جرت بعد أزمة المصارف اللبنانية مؤخرا، بينما الحرب مسؤولة عن الأزمة الاقتصادية التي أطبقت على البشر طوال سنوات لن يلغيها الزعم بمدن صناعية في عدة محافظات تضم منشآت ومعامل، وأنّ الاستثمارات في المرحلة المقبلة ستركز على تأمين الطاقة البديلة، واصفاً ذلك بأنّه “استثمار رابح ومجزٍ”. متجاهلا وقوع سوريا تحت وطأة عقوبات دولية، عدا خسارته الشمال الشرقي من سورية؛ مستودع الثروات في البلاد، والذي تحوّل إلى منطقة نفوذ للولايات المتحدة.

مهما ورد من حجج، ما هي إلا مجموعة تعلات، لا يستطيع التنصّل من مسؤولياته في قتل واعتقال وتهجير السوريين بسبب الحرب المفتوحة التي شنّها على الشعب بمساندة من الإيرانيين، وتالياً من الروس.

“خطاب القسم” ولاية رئاسية جديدة شكلية، لكنها لن تكون نهاية للعملية السياسية التي لا تحرز تقدما بقدر ما تحرز تراجعات، ولا انتصارا في حرب تبدل وسائلها، اليوم الحرب مستمرة على الشعب في الداخل بالغلاء والتجويع وتعميم الفقر، وإذلال الشعب بالطوابير.

في آذار ٢٠١١ ارتكبت جريمة موصوفة، وفي تموز ٢٠٢١ تجددت الجريمة على نحو آخر، لمجرد أن هناك من لم يتعلم من حكمة تتردد في القصص البوليسية “الجريمة لا تفيد” الإشارة إلى هذه القصص المسلية، ليس لأنها تحفل بالرعب والجرائم فقط، وإنما باللصوصية، قصة سوريا تقع في دائرة النهب، واللصوص لا يطولهم العقاب.