على مدار السنوات السابقة، أصر الأميركان ومعهم الغرب على عدم إعادة النظام السوري إلى المجتمع الدولي إلا بعد تغيير سلوكه. مهما يكن كانت العبارة الغامضة، بحكم أنها مطاطة، لكنها كانت بمنتهى الوضوح بالنسبة للنظام، كان يدرك استحالة تغيير سلوكه وإلا أصبح نظاماً آخر، لكنه سيجري محاولات شكلية تشير إلى أن سلوكه قد تغيّر، وهي لعبة أتقنها، وكان الواقع يكذبها دائماً.
مثلا بشأن المعتقلين أصدر بين فترة وأخرى مراسيم العفو، كانت مراوغة تبدو على أنها حسن نية، بينما دلت على منتهى سوء النية، مراسيم العفو لم تكن اعتباطية، فالنظام لم يتوقف عن عمليات الاعتقال التعسفي، ولا عن احتجاز الآلاف من المعتقلين بينهم سياسيون معارضون من دون أي أخبار عنهم، على الأقل، هل هم على قيد الحياة؟ هذا مثال بسيط على تعمّد النظام اللامبالاة إزاء مأساة آلاف العائلات السورية، أثبت مراراً أنه لا يتمتع بأي إحساس بالمسؤولية في التعاطي مع هذا الملف الإنساني.
في العفو الأخير، أطلق من مُختلف السجون المدنية والعسكرية والفروع الأمنية في المحافظات السورية، عدداً من المعتقلين لا يشكّلون 1% من جموع المعتقلين في سجونه، كان من بينهم نساء وأطفال أصبحوا شباباً خلال سنوات اعتقالهم، ما السبب؟ كان من الطبيعي، أن تتجه الشكوك إلى أن قرار العفو لم يأت إلا بعد انكشاف مجزرة “حي التضامن” الدمشقي، التي شكّلت صدمة كبيرة للسوريين. ما اضطره إلى التعامل مع هذا الملف للتخفيف من وقع المجزرة في الإعلام بضجيج مرسوم العفو، لكن ما حدث تحت الجسر أعاد نكأ جراح السوريين، والتذكير بأنه ما يزال لديه نحو 132 ألف معتقل، بينهم 87 ألف مخفيّ قسرياً.
ومن المؤسف حقًا، أن الترحيب الأممي بالعفو الرئاسي جاء على لسان غير بيدرسن المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا، وأنها خطوة نحو تغيير النظام سلوكه، يجب تشجيعه على اتخاذ خطوات أخرى في هذا الاتجاه. الواضح أن الطرفين يتكاذبان، فلا تغيير لما لا يتغير.
أصبح لأي إجراء يتخذه النظام وجهان، يدأب على الاستفادة منهما، من جهة يريد استعادة نفوذه في سوريا، ومن جهة أخرى يحاول أن تندرج إجراءاته في ما يدّعي تأهيله للعودة إلى الجامعة العربية، تمهيداً للعودة إلى المجتمع الدولي
عموماً، أصبح لأي إجراء يتخذه النظام وجهان، يدأب على الاستفادة منهما، من جهة يريد استعادة نفوذه في سوريا، ومن جهة أخرى يحاول أن تندرج إجراءاته في ما يدّعي تأهيله للعودة إلى الجامعة العربية، تمهيداً للعودة إلى المجتمع الدولي.
في ظل أوضاع متدهورة اقتصادياً، لا تعني استعادة النظام لنفوذه، إلا قدرته على دفع رواتب جنوده وعناصر أجهزته الأمنية، وتأمين الحد الأدنى من الوقود والخبز والمواد الأولية للمناطق الواقعة تحت سيطرته، فبدأ بتفكيك إمبراطورية مخلوف الاقتصادية، والاستيلاء على شركاته وأمواله.
لم تقتصر عمليات المصادرة على مخلوف فقط، بل ذهبت إلى مصادرة شركات تجارية ومداهمتها بحجة انتهاكات لنظام الضريبة، كانت مبرراً لفرض غرامات مالية ضخمة عليها، أدّت إلى شلّ أعمال بعضها وهجرة عدد كبير من التجار، كان بعضهم من رجال الأعمال الذين أيدوا النظام، واستفادوا من استثناءات كثيرة ما راكم ثرواتهم، معظمهم كانوا من الذين فُرضت عليهم شراكات طفيلية، وكانوا من عداد النخبة الفاسدة. فبدا وكأنه من العدل أن تأخذ منهم الدولة أكثر، وجاء دورهم للمساهمة في إنقاذ النظام، ولو بالرغم عنهم، لمجرد أن الطرف الذي صنعهم تخلّى عن مظاهر الشراكة التجارية، ولاحق من وثق بهم، ووثقوا به، من دون إدراك أنّ اللصوص لا تجمع بينهم الثقة بل عدم الثقة. مع أنه لم يكن له أن يخوض هذه الحرب الغاشمة لولا وقوفهم معه، لكن الظروف اختلفت.
صُوّرت عملية السيطرة على الأرصدة والشركات وتحميلهم ضرائب باهظة، بأنها جزء من محاربة الفساد وعدم التسامح مع أي ِشخص متورط فيها. هذه العملية المستمرة، وما ينتشر حولها، استغلت للتصدير الخارجي على أنه إنهاء للفساد في الاقتصاد استشرى خلال الحرب وكان في وضع حد له ضرورة اجتماعية ووطنية.
لم يوفر النظام نهب ملايين الدولارات من أموال الدعم الإنساني المفترض أنها لمساعدة السوريين الذين يعانون من أزمات باتت مستفحلة، فاستولى على النصف من كل دولار وصل للمنظمات الإغاثية
كما لم يوفر النظام نهب ملايين الدولارات من أموال الدعم الإنساني المفترض أنها لمساعدة السوريين الذين يعانون من أزمات باتت مستفحلة، فاستولى على النصف من كل دولار وصل للمنظمات الإغاثية. وحوّل بهذه الطريقة 100 مليون دولار إلى حساباته ما بين 2019 و2020.
الورقة التي يحاول النظام استثمارها تجارة الكبتاغون، فمن جانب تدر عليه المال، وكتقدير حول حجمها يكفي القول إن ما صودر منها من قبل سلطات عربية وأوربية، خلال عام 2020، بلغ أربعة مليارات دولار، ما يعني أنها تجارة تشكل مصدراً هائلاً للثروة، لن يذهب للشعب بل إلى الميليشيات المسلحة والشبيحة، وأيضاً للملاذات الآمنة.
في الوقت نفسه، تصلح هذه الورقة للتلويح بها مع كل ادعاء بمصادرة شحنة على أنها عربون في الطريق إلى مكافحة تجارة تشكل اختباراً للغرب، في حال اعتبرت خطوة واعدة، قد تتبعها خطوات في تغيير سلوك النظام، فما المقابل؟
ودائماً يبقى المعتقلون قضية مركزية يجب ألا يسمح للنظام بالمتاجرة بها على أمل منحه براءة ذمة على حساب حرمان السوريين من حرياتهم.
-
المصدر :
- تلفزيون سوريا