صحّ الادّعاء بأنّنا نشهد عودة المكارثية من خلال نسخةٍ منقَّحة عن الأصلية، التي طاولت أواخر الأربعينيات مفكّرين وفنّانين وممثّلين وموسيقيّين وكتّاب سيناريو، ولم تنجُ منها أسماء لامعة مثل بريخت وشارلي شابلن. كانت مهمّتُها الفعلية التفتيش في الضمائر. اليوم استعادت دورَها، وأصبحت أكثر شمولاً. المحكمة أصبحت محاكم متوزّعة في أميركا وغالبية دول أوروبا.
محاكم تفتيش تُقام على عجَل في كلّ موقع، وعلى جميع الأصعدة؛ حكومات، وسائل الإعلام، وجامعات، وظائف عامّة، سينما، مسرح، موسيقى، فنّ تشكيلي. بالإمكان تقديم لائحة طويلة، تُنكر ما بلغه العالم من حرّية في الرأي حتى بات على الديمقراطية حماية كينونتها والدفاع عن نفسها، وإلّا فقدَ الغرب ما كان يتمتّع به من فضيلة يزهو بها، وأصبحت على وشك الزوال، فيما لو استمرّت الحكومات في أخذ جانب البرابرة.
كأنّما العالم أصيب بالهيستيريا مع حدث السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر، وليس في هذا كثير مبالغة، فالهيستيريا أصابت العقل، واستهدفت السياسة والثقافة، والفكر، والعلم، والأدب. هذه المجالات، التي هي الأَولى بـ التعبير الحرّ، باتت الغاية إسكاتها إن لم يكن قمعها، وتعريضها للعقوبات. يجوز القول إنّ هناك جريمة تُرتكب، ويجب لجم شهود العيان عن الكلام.
وربّما في التأمّل بما طرأ على الهيئات التعليمية ما يدلّ على الارتداد المعاكس للغايات التي كانت من أجلها، ففي التسارع الذي أبدته وكان متعثّراً، لم تكن على استعداد له، باتخاذ خطوات عشوائية سرعان ما ترسّخت في سياسات حازمة. من هنا يبدو الخطر جسيماً فعلاً لو استمرّت هذه العقلية تتحكّم بالتعليم، يُخشى أن تعمّ البشرية المحرومة من الحرّية نحو قطع الصلة بها، لعدم لزوم السعي إليها.
استمرار الغرب في أخذ جانب البرابرة يهدّد الديمقراطية
بالعودة إلى الوقائع، صدرت بعد ساعات من انتشار خبر “طوفان الأقصى” تعليماتٌ داخلية في حكومات أغلب دول أوروبا، تمنع أيّ تظاهرة مؤيّدة لحقوق الشعب الفلسطيني. ومع أنّ التظاهرات التي خرجت من الجامعات أبدت سلوكاً حضارياً وإنسانياً، اتُّهمت بممارسة الشغب والكراهية. وكانت المفاجأة باتهام وزيرة الدولة للعلوم والابتكار والتكنولوجيا في بريطانيا أعضاء في “معهد البحث والابتكار” من جامعة إدنبره وجامعة لندن بالإعراب عن آراء متطرّفة بصدد الحرب في غزّة؛ تبعها التهديد بتوقيفهم عن العمل، استقال على الأثر سبعة أعضاء، ما أدّى إلى الدخول في صدام مفتوح مع اتحاد الجامعات.
أمّا على المستوى الطلّابي، فكان التعريض بطلبة يرتدون الوشاح الفلسطيني على أنّه “الوشاح الإرهابي”، ما يشكّل خطراً، كما أصبح علَم فلسطين ممنوعاً. وأدّى إلى نشوء ظاهرة شبه عامّة في محاولة النيل من الجامعات، بتهمة إشاعة أفكار اليسار، والتقدُّم، ومعاداة العنصرية، والاستعمار.
المستغرَب، انتقال هذه المظاهر اللامسؤولة إلى مدارس الأطفال، فقد صُدم طفل فلسطيني في الثالثة عشرة من عمره، عندما وصفه زميله الطفل الأميركي بأنّه إرهابي، فردّ عليه: “فلسطين حرّة”. إدارة المدرسة قرّرت إيقاف الطفل الفلسطيني مدّة ثلاثة أيام، بحجّة أنّ هذه العبارة تعني الموت لجميع اليهود ولا ينبغي قولها أبداً.
لن نُخطئ في مجال الإعلام، بروز حملة عالمية منسَّقة، يُتَّهم فيها بمعاداة السامية كلُّ من ينتقد استباحة “إسرائيل” جميع القوانين الدولية في الحرب، وسيطرة اللوبيات الإسرائيلية على وسائل الإعلام ومراكز صناعة القرار. وتأخذ شكل هجوم حادّ في محاولة المذيعين انتزاع إدانة لمقاتلي حماس على أنّهم إرهابيّون لا حركة تحرُّر وطني. ولم تقبل أية حجة إلّا في استسلام مقاتلي حماس وغلقاء أسلحتهم، والكفّ عن المقاومة، والعودة صاغرين إلى أكبر سجن مفتوح في العالَم.
هناك جريمة تُرتكب، ويجب لجم شهود العيان عن الكلام
وفي مثال أصبح يُقتدى به في المؤسّسات الاعلامية، وجّهت صحيفة “الغارديان” البريطانية رسائل داخلية خاصّة عن فرض قوانين جديدة تَمنع جميع موظّفيها من التوقيع على أيّ عريضة بشأن حرب “إسرائيل”، خصوصاً التي تدعو إلى الحيادية في نقل أخبارها، إضافة إلى حظر مشاركة موظّفيها آراءهم الخاصّة عبر وسائل التواصل الاجتماعي بشأنها.
بيد أنّ ما أثار المخاوف سلسلة التهديدات التي تعرّض لها بعض العاملين في محطّات التلفزة، وطرد بعضهم لمجرّد أنّهم عبّروا عن مواقف مخالفة للإدارة أو للمموّلين، بدعوتهم لوقف إطلاق النار، أو إبداء التعاطف مع الفلسطينيّين، أو التلميح إلى مسؤولية “إسرائيل” عن الإبادة، في حين أُجبرت صحافية أميركية في “نيويورك تايمز” على تقديم استقالتها بعدما وقّعت على عريضة تحتجّ على حصار غزّة. ودُفعت جاسمين هيوز، الحاصلة على عدّة جوائز، إلى الاستقالة بحجّة انتهاكها سياسات التحرير. استقالت الشاعرة آن بوير من الصحيفة ذاتها في ظلّ أجواء القمع المخيّمة وقالت: “كيف أكتب الشعر والحرب مستمرّة؟”، بينما أُلغي برنامج المقدّم البريطاني المسلم مهدي حسن، في “شبكة MSNBC” الأميركية، بعد مناظرة قوية مع مسؤول إسرائيلي.
ما يثير السخرية هو امتداد المنع إلى عالم المسرح، وهو من السوابق الخطيرة التي لا تتكرّر بسهولة، فمسرحية “الهلاك” للمسرحي وكاتب السيناريو البريطاني المعروف جيم ألن، صدر أمر بوقف عرضها، لأنّها تتناول صفقة موثَّقة تاريخياً، تمّت بتواطؤ بين شخصية صهيونية وضابط نازي، بتسهيل النازيّين هجرة 2000 من اليهود الهنغار إلى فلسطين، مقابل سكوت المؤسّسة الصهيونية عن سوق قرابة نصف مليون يهودي إلى معسكرات الاعتقال.
يبلغ المنع حدوده الهزلية القصوى في الفنّ التشكيلي، عندما قرّرت “دار كريستيز” البريطانية المعروفة سحب لوحتين للرسّام اللبناني أيمن بعلبكي من مزاد مخصّص لأعمال منطقة “الشرق الأوسط”، بحجّة أنّها “تلقّت شكاوى لا تستطيع الإفصاح عن مصدرها”، اضطرّتها إلى اتخاذ هذا القرار لئلّا تسيء إلى علاقتها بعملائها الذين أبدوا انزعاجهم من محتوى العملين. أمّا لوحات بعلبكي المُخيفة، فإحداها لرجل يضع على رأسه كوفية حمراء وبيضاء، ويلفّ بها وجهه، فبدا كأنّه يتلثّم بكوفية. كان المنع للشبهة، فهناك من يصيبهم الشال الفلسطيني بالرعب. أمّا “متحف فيلادلفيا”، فقد أجّل معرضاً للفنّ الإسلامي حضّر له منذ سنوات، والسبب ليس غامضاً، فقد بات كلّ ما يمتّ بصلة إلى الإسلام يثير حساسية المتاحف تحت تأثير الحرب، مع أنّه لا يثيرها القتل اليومي لأطفال غزّة.
ليس من العسير تفسير هذه المظاهر، جريمة فلسطين عمرها 75 عاماً، أسهمت في ارتكابها طوال هذه السنوات أميركا وأوروبا، إنّها جريمة ضدّ الإنسانية متكاملة الأوصاف، وبذل الجهود لتسويغها يبدو مفهوماً، ولا يحتاج إلى تفسير تسارعهم إلى محاولة طمسها، بكافّة وسائل المنع والحظر وتكميم الأفواه والطرد من العمل والتهديد والوعيد.
هذه عملية مستمرّة لم تتوقّف من قبل حتى تتوقّف اليوم، تدعم الوجود المختلق لـ”إسرائيل”، بإرسال المليارات والأسلحة، والذخائر، والمتطوّعين، والمرتزقة. كلّها ليست إلّا دفاع الغرب عن جريمة كبرى ارتكبتها أوروبا، وساندتها أميركا على أمل أن يشملها التقادم مع الزمن، لكنّها جريمة عصية على التقادم.
لطالما حاول “المجتمع الدولي” إثبات صدقية قيم ومبادئ وأعراف طوّرتها البشرية عبر العصور، والالتزام بها تحت عنوان “القانون الدولي الإنساني”، ودائماً كانت تفشل في إيجاد حلّ للقضية الفلسطينية، ما أثبت مراراً عجزها إزاء قوى غاشمة تُكرّس الظلم وتحارب العدالة. لذلك ينتفض البشر ضد أوضاع غير إنسانية.
-
المصدر :
- العربي الجديد