ما الذي نريده من الغرب؟ أعتقد أنّ القائمة ليست طويلة، إلّا بقدر تدخّلاته، فعدا الفترة الاستعمارية التي كانت آخر تأسيس لعلاقته مع سورية، وكان من نتائجها التفرقة بين السوريّين إلى طوائف موجودة فعلاً، كان من الممكن التغلّب عليها بعد خروج العثمانيّين من سورية، وجد الفرنسيون حلّاً لها، بتقسيم سورية إلى خمس دويلات، كانت على هذه الشاكلة تخدمهم في استمرار وجودهم، وإدارة البلاد، وتؤمّن “الاستقرار” للشعب. هذا الاستقرار اللعين الذي يشبه استقرار نظام الأسد، كان ثمنه باهظاً، دفعه السوريّون من أعمارهم قتلاً وخراباً.

أوقع الفرنسيّون في يقين بعض الطوائف أنّها أقلّيات مغلوبة على أمرها، بالمقارنة مع الأكثرية، سيكونون لهم سنداً في تأمين مصالحهم وحرّياتهم. وجد ذلك صدى سرعان ما تلاشى، ومع أنّ الحُكم الوطني تصدّى لهم، فقد كانت الجرثومة قد زُرعت، وبات بعدها هذا الصراع رهينة اليسار واليمين والرجعية والتقدّمية، كانت غطاء لتكتّل الأقلّيات، حمل لواءها ضبّاط الجيش، وقادهم الطموح الأقلّوي للاستيلاء على السلطة، حسب زعمهم كانوا الأكثر حرصاً على تقدُّم سورية من الأكثرية الرجعية، طالما أنّهم إقطاعيون وبرجوازيون كبار وصغار.

غضّ الغرب النظر عن ديكتاتورية الأسدين بدعوى حمايتهما الأقلّيات، وكأنّ الأكثرية كانت في حالة تحفّز للانقضاض على الأقلّيات واضطهادهم ومنعهم من ممارسة طقوسهم الدينية، أو طردهم خارج البلاد، ما أتاح لنظام الأسد قتل الأكثرية، وألّا يعف عن قتل الأقلّيات، كان قد عمل حسابه لإسكات الأوروبيّين ومعهم الأميركان، بتقديم الخدمات لهم، فسكتوا عن مجزرة حماة، وسجن تدمر الرهيب، وقتل الحريري، والقائمة تطول. كان من الصعب على المعارضة اقتلاع نظام يحميه الغرب بحُكم ارتباطه معه بقنوات سرّية بخصوص الإرهاب، كان العمل بينهما تبادلاً للمنافع، رغم أنّ إيران وذراعها حزب الله أصبحتا مركز الثقل في زمن الوريث.

إنّها حكاية الديكتاتورية وليست حكاية أديان ومذاهب

اليوم بعد فرار “حامي الأقلّيات”، يعود الغرب كي يلوّح بالحكاية نفسها، ولو كان بالوعيد الدبلوماسي، ويذكّر الطوائف بإمكانية الاستقواء به، لا تظنّوا أنّكم وحدكم. هذا التدخّل لم يكن وارداً من قبل، أمّا اليوم فيجب تحديد نوعية التعامُل مع القادمين الجدد، يجب أن يقدّموا شيئاً للغرب، وإلّا…

الخروج من مأزق الطوائف والطائفية لا يكفيه فقط قطْع هذا الممرّ الإجباري للتعامل معه. في الواقع نحن لا نرجو أملاً منه في تغيير هذا النوع من العلاقة. المعوّل علينا نحن لا الغرب، وهي عملية قد تنجح إذا عولجت سيكولوجياً، بأن نُقنع أنفسنا بأنّنا لا أقلّية ولا أكثرية، ولو كنّا هكذا، حسب أدياننا ومذاهبنا. طبعاً لا طائفة تريد استجرار طائفة إلى معتقداتها، فالخلاف ليس دينياً، وإذا كان فهو سياسي. إنّ ما يحكم علاقاتنا نحن الأفراد بالدولة هو السياسة، ويعود حلّها إلى حركة المجتمع ومصالحه التي تُعبّر عنها المجالس النيابية والأحزاب والنقابات.

بالعودة إلى سيكولوجية هذا المأزق، تتحدّد في كيف ينظر كلٌّ منّا إلى نفسه… إذا نظر إليها على أنّه سوري سنّي مثلاً، ما يعني أنّه يُميّز نفسه عن الآخرين، بينما أن يكون سورياً، يعني أنّ مذهبه يخصّه وحده، ما يزيح التمييز الديني. هذا يضع الأقلية والأكثرية في المجال السياسي، ويُلغي أقلّيتنا وأكثريتنا الدينية.

إنّ الاعتراف بالأكثرية أو الأقلّية على أساس ديني يُميّز بيننا بموجب العقائد، وهو ليس مجال خلاف لنتوافق حوله، طالما الأقلّيات والغالبية لا تريد الارتداد عن عقائدها. أمّا إذا كان الاعتراف بها سياسياً، فانتماؤنا السوري هو حقيقة وجودنا.

تجربة سورية السابقة في حماية الأقلّيات على أساس ديني، كان الزعم بأنّها مغبونة من الأكثرية، أمّا الضمانات فهي أن تكون السلطة، أي أن تَحكم ولا تُحكم، وكما حدث استولى ضابط على السلطة، حسب الشائع يمثل أقلّية دينية، استفرد بالحُكم ليطمئن، واضطرّ ليكون أكثر اطمئناناً إلى استعمال القوّة والقمع والسجون والموت ليحافظ على طمأنينة الأقلّيات، ما حتّم أن يكون الحُكم وراثياً، كي يمتدّ الاطمئنان إلى الأبد. وعندما تعرّض للاحتجاجات، أقنع باقي الأقلّيات بأنّها مهدّدة من الأكثرية، وشنّ حرباً على الأخيرة.

هذا هو الدرب الصاعد لذرائع التفكير الأقلّوي في السيطرة على البلاد، مع الزعم بإشراك ليس الأقلّيات فقط، بل والأكثرية أيضاً، مع أنّها تُشرك أفراداً منهما، بينما كما يبدو تسيطر أقلّية واحدة، لكن الديكتاتورية لا ترضى بالمشاركة حتى ضمن الأقلّية الواحدة. إنّهم مجرَّد مستخدَمين لديها، وتوزيع الفتات عليهم حسب درجة الخنوع… فما علاقة الأديان والمذاهب في ملحمة السيطرة على السلطة؟ إنّها حكاية الديكتاتورية.

في الواقع، لا تتمتّع الأقلّيات بالحماية، ولا الأقلّية هي الحاكمة، وإنّما فردٌ واحد، هو الديكتاتور، تحفّ به عائلته، تتقاسم معه المناصب والغنائم.

هذا تبسيط لألف باء الأقلّيات والأكثرية، جميعهم خاسرون، والأوحد هو الرابح الوحيد.