يُمكن تحديد تاريخ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، بأنه اليوم الذي سجّل اندلاع أكبر مُواجهة عسكرية بين حركات المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي في غزّة، وكان أيضاً بداية أُخرى، إضافية وصارخة لانكشاف وسائل الإعلام الغربية، بعد تاريخ طويل من التحيُّز في الصراع العربي الإسرائيلي، ومن بعده ضدّ الشعب الفلسطيني في أرضه المُحتلّة.
وفي المرحلة الأخيرة ظهر جليّاً بمُحاولات دؤوبة خلال العدوان على غزّة، وكانت في تقييد نقل الخبر، وإخفائه والتلاعُب فيه إلى حدود لا يُستهان بها، بلَغت درجة تزييفه، باختلاق اتّهاماتٍ بجرائم تُشوِّه صورة المقاومة عن تعمُّد صارخ. يُمكن القول، إنّ “طوفان الأقصى” وُوجِهَ بطوفانٍ من الأكاذيب.
إنّ مهنة الإعلام بأنواعها، خصوصاً الصحافة المعروفة بالبحث عن المتاعب، تُحيلنا إلى المشاقّ التي يتحمّلها الصحافيّون والعاملون في وسائل الإعلام بحثاً عن الحقائق، غدت في ظلّ الهيمنة الغربية ليست بحثاً عن الحقائق، بقدر ما هي اختراعُ الأكاذيب وتلفيق الذرائع لإخفاء الحقيقة.
وسائل إعلام مُقيّدة بالحكومات واللوبيّات ورجال المال
لن نتطرّق إلى وسائل التواصل الاجتماعي، التي ساهمت بِنَشْر كمّية هائلة من المُغالطات والإشاعات، فالذُّباب الإلكتروني متنوّع الجنسيّات والمُموَّل من مؤسّسات وجهات عدّة معروفة ومجهولة، أسفر عن غضِّ النَّظر من الحكومات، إنْ لم يكن بتأييدها، ما يساعد سياساتها على التسرّب إلى الفضاء الإلكتروني من خلال دعاوى وادّعاءات شعبوية ضدّ العرب وفلسطين والإسلام، والتحريض عليها، بينما كان النشطاء المتعاطفون مع غزّة تحت رقابة مُنحازة ضدّ المقاومة على حسابات “فيسبوك” و”إكس” (تويتر سابقاً).
شكّلت تدخُّلات الغرب في حرّية التعبير امتحاناً، سقط فيه، بأزمة تجاوزت المنطقة العربية وأصبحت دوليّة. كانت السيطرة على وسائل الإعلام تكاد أن تكون مُتكاملة، وأيّ خروج عنها يتعرّض الفاعل للعقوبة، إن لم يُجبر على تقديم استقالته، أو طرده أو التعرُّض للمُضايقة، وهو ما حدث أيضاً في الجامعات والوظائف العامة، لم تُستثنَ منه القنوات التلفزيونية، ظهر التأثير في المقابلات السياسية، والتضليل في نشرات الأخبار. ولم يكن الخروج عن هذه الظواهر القمعيّة قويّاً ومؤثّراً إلّا في المظاهرات، فالشوارع وحدها منحت المحتجّين حرّية التعبير.
تبدأ صناعة الأكاذيب في “إسرائيل”، هناك مصدرها، ويجري توزيعها إلى أوروبا وأميركا. أوّل من تبنّاها الرئيس جو بايدن بالذات، وعمل على ترويجها، فوصف عملية السابع من تشرين الأول/ أكتوبر بأنها أشبه بهجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001 في نيويورك، بذلك نسَب “حركة حماس” إلى “تنظيم القاعدة”، والأقرب إلى “داعش”. وكرّر أكثر من مرّة بأن “حركة حماس” تستهدف اليهود، ما أحال المقاومة إلى مُنظَّمة نازيّة، وحوّل “طوفان الأقصى” إلى “هولوكوست”. بينما كان جيش الاحتلال الإسرائيلي ينفّذ مجازرَه في غزّة، وكانت العمليات الهمجيّة التي لا تقلّ عن “هولوكوست” مُستمرّة على مدار الساعة.
تلك كانت إحدى المرّات النادرة في غرابتها، حيث قيّدت الصحافة نفسها بتعليمات الحكومات واللُّوبيات ورجال المال والأعمال، وتصرّفت على الضدّ من حرّياتها إلى حَدٍّ باتت تأخذ أخبارها من الناطقين المُعتمَدين في إدارات الدَّولة، والمُثير للسُّخرية أنّ الصحافة أصبحت تستمدّ رؤيتها منهم، وليس ممّا يحدث على الأرض، فـ”إسرائيل” عدا أنها وضعت مُراسلي القنوات التلفزيونية تحت الرقابة العسكرية، منعتهم من نقل مُجريات الحرب في غزّة بمنعهم من الدخول إليها.
أمّا المركز الرئيسي لنشر الأكاذيب، فكان في واشنطن، عندما وقف المتحدّث باسم “مجلس الأمن القومي” في “البيت الأبيض”، جون كيربي، وهو أميرال سابق، عُيّن من قبل ناطقاً في الإدارة الأميركيّة مرّة باسم “البنتاغون” وأُخرى باسم وزارة الخارجية؛ ونظراً لـ”مواهبه” أُعطي مسؤوليّات أكبر، ليقول: “أريد أن أكون واضحاً، وأعرف أنّني قلتها مليون مرّة، إن الأرقام الصحيحة لعدد الضحايا المدنيّين في غزّة هو صفر، ولم نر دليلاً على قيام إسرائيل بإبادة جماعية”.
الكذب لم يعُد للكذب، وإنما ذريعة لتنفيذ أفظع الإبادات
هذا الرجل ليس أحمق، لم يُسنَد إليه هذا المنصب الحسّاس ليُجيب عن أسئلة من مُراسلين مُخضرَمين لجرائد كبرى، تتطلّب الدِّقّة، ولم تكن هذه الدِّقّة، إلّا قدراته على التلاعُب بالكلام. المطلوب منه، عدم إدانة “إسرائيل” على القصف العشوائي، والتأكيد بكلّ ثقة أنها لم ترتكب أيّة مُخالفة، من ناحية عدم التمييز بين مُقاتلين ومدنيّين، فهو مُكلَّف بأن يُفهمنا أنّ آلاف الضحايا ليسوا من المدنيّين، وكأنّ أيّ إنسان فلسطيني ليس مدنيّاً، حتى لو كان شيخاً أو امرأة أو طفلاً، بل مجرّد هدف للقتل، على الإنسان الفلسطيني ألّا يكون له وجود إلّا كضحيّة لا حساب لها. ومثله الادّعاء بأن واشنطن لم ترَ دليلاً على ارتكاب “إسرائيل” إبادة جماعية، ولو أنّ العالَم كلّه رأى. إنّ الفضاء مفتوح، الجميع يعرفون، وكلّهم يرون.
تخسر صحافة الغرب من ناحية أساسية المصداقية، بتورُّطها بِنَشْر أخبار مزعومة، ومن دون تأكُّد، عن جرائم ارتكبتها “حركة حماس”، حتى إنها اضطرّت إلى الصمت عن نشرها تلك الأخبار، ومحاولة المراوغة لولا وُرود تقارير من الداخل الإسرائيلي تنفيها. فالكذب لم يعُد للكذب، وإنما ذريعة لقيام “إسرائيل” بتنفيذ أفظع المجازر.
كما وبالدرجة الأُولى، تخسر الصحافة الحرّية، حرّية البحث عن الحقيقة، وهو حقّ ممنوح لكافة وسائل الإعلام، المطبوع منها والإلكتروني، حرّية يكفلها الدستور والقانون، تَضمن عدم تدخُّل الدّولة، في حين تضرب بهذه الحرّية عرض الحائط، ومعها بالحقيقة، كذلك الحقّ الذي منحته إيّاه ليس الدّولة، وإنما عقود طويلة من الزمن في الدّفاع عن حرّياتها ضدّ الدّولة بالذات.
-
المصدر :
- العربي الجديد