أدّت الوشاية بالمخرج المسرحي، فيسفولد ميرخولد، إلى الإعدام رمياً بالرصاص في عام 1940 بتهمة العمالة لليابان، مع أن عمالته لليابان أوغيرها ليست واردة. المطلوب التخلّص منه.
في زمن ستالين، لا مكان لرجال يفكّرون؛ ميرخولد كان واحداً من أهم مخرجي المسرح في القرن العشرين، ومن أكثر المؤثرين في المسرح المعاصر. في عام 1955، بعد انزياح ظِلّ ستالين، برّأته الحكومة السوفييتية من جميع التهم الموجهة إليه.
الدكتاتوريات طاردة للمثقفين الحقيقيين، لم يقتصر الإعدام على ميرخولد، أُعدم أيضاً الكاتب إسحاق بابل رمياً بالرصاص، وغيره. القائمة طويلة. أما الذين لم تتحمل ضمائرهم هذا العسف فانتحروا، منهم الشاعر سيرغي يسنين شنقاً، والشاعر ماياكوفسكي برصاصة في القلب، كذلك هناك من غادر ولم يعد، مثل شاغال وكاندينسكي ونابوكوف وبونين. القائمة تطول أيضاً.
الذين انتحروا أو غادروا، هربوا مما أصبح لازمة لا بد منها، الاتهام بالتآمر على الوطن الشيوعي، حتى أن المنظّرين الأوائل للثورة الروسية، من أمثال بوخارين وزينوفييف وكامنييف، اضطروا للاعتراف بخيانتهم لدولة العمّال والفلاحين. لم يتحملوا التعذيب الجسدي والمعنوي، فوشوا بأنفسهم.
” ثمة مثقفون احترفوا التعامي عن الأساليب الإجرامية للسلطة”
عندما أخضع ميرخولد للتعذيب، كتب رسالة استرحام واستعطاف إلى وزير الخارجية مولوتوف: “… جُلدت حتى أُصبت بنزيف داخلي حاد، عندها صاروا يضربونني على تلك الكدمات الحمراء والزرقاء والصفراء بالسوط. كان الألم مبرحاً حتى أنني شعرت كأنهم يسكبون الماء المغلي على تلك الأجزاء الحساسة. لقد عويت وبكيت من الألم. بعد 18 ساعة من التحقيق، سقطت نائماً واستيقظت بعد ساعة على صوت أنيني وقد تمكّنت منّي حمى التيفوئيد”.
أنجبت الدكتاتوريات نوعية متخصصة من البشر، يمارسون التعذيب حتى الموت، في داخل كل واحد منهم قاتل متسلسل يعمل على تعذيب الضحية، ويتفنّن في تشويهها، ويبتدع أساليب أقوى في إحداث الأذى، يفتنه تأثيرها؛ كلّما كانت أكثر إيلاماً وترويعا كانت أكثر إرضاء وإمتاعاً، بل وتأخذه النشوة للمزيد من التعذيب، إلى أن يحلّ الموت ويضع حدّاً لمتعته وعذاب الضحية.
الأخبار التي لا تكفّ عن الورود من سورية ومصر والعراق، تشير إلى أن الموت تحت التعذيب بات نهجاً معتمداً منذ بدايات “الربيع العربي” في التعامل مع معارضي الأنظمة، لم يعد خاضعاً للخطأ أو الزلل، ولا لفاعل مختل العقل، أو لمنحرف سادي يقبع في ظلام الأقبية، وإنما لأشخاص تملي عليهم وظائفهم القتل متذرّعين بإحلال الأمن والأمان في المجتمع.
لا حقيقة أكثر جلاء ووضوحاً من هذه اللحظة الأخلاقية الصادمة للضمائر، التي لا تني تتكرّر كل يوم أمام عيوننا طوال سنوات. إذا كان هناك محكّ لإنسانيتنا، فإدانة الأنظمة التي تستمد الحياة من هذا القتل. ثمة مثقفون احترفوا التعامي عن الأساليب الإجرامية للسلطة، وانحازوا ضد الإنسان الذي يموت تحت التعذيب لمجرّد أنه طالب بالحرية. إذا كانوا كما يزعمون حرّاس الحقيقة، فأية حقيقة هذه؟
-
المصدر :
- العربي الجديد