في روايته «السوريون الأعداء» يقدم الروائي السوري فواز حداد شخصية «عارف»، المثقف المعارض للنظام باسم الديموقراطية والاشتراكية، ولكن وما أن تبدأ الثورة حتى يقف إلى جانب النظام، وقوفاً يصيغه بلغته المعارضة.
ما يزال معارضاً ولكنه في هذه اللحظة المصيرية مع النظام، أو الأفضل، مع الجيش الوطني ومؤسسات الدولة، أما كيف تميزها عن النظام فهو تفصيل صغير آخر. للصدفة، كالعادة، فإن عارف علوي. تفصيل آخر صغير ككل التفاصيل الصغيرة السابقة، ولكن أهميته تظهر في حوارات عارف الخاصة. خلال هذه الحوارات تتم العودة إلى القصة كما هي دون أساطير، نحن وهم. نحن وهم تعودان إلى الجماعتين الإثنيتين المتنازعتين، نحن العلويون، وهم السنة. فإن سمعت أحدهم يحدثك عن المقاومة والاشتراكية والعلمانية، تذكر عارف.
مثقفٌ كعارف لن تحتاجه الميليشيات الشعبية، وقد يخدم النظام باعتباره «المعارض الوطني» ولكن النظام سيتخلى عنه مع انتهاء الحرب. عارف يخدم أولاً وأخيراً عارف. هو يجد لنفسه مكاناً عبر الحكاية التي يسوّقها، لم يتخلى عن إيديولوجيته الوطنية، يسوّق لروايةٍ قد تستقطب آخرين مثله متحرجين من الإثنية الفاقعة للنزاع، وتحكمهم مخاوفه ذاتها.
أخيراً وبحكم أقلوية جماعة عارف، فإن هذه الحكاية تبدو الأفضل للمجال العام طالما أنهم ليسوا قادرين على فرض هيمنتهم بوصفهم طائفة. بالطبع هذا ما يميزهم عن الحمقى على الجانب الآخر، الذين يعدون الآخرين بالذبح6 وهم تحت القصف والضرب.
قصة عارف تناسب العالم الخارجي الذي لن ينحاز إلى جماعة إثنية دون أخرى في نزاع إثني صريح، العديد هنا يحتاجون إلى قصة أخرى يمكن تقديمها، أو أنهم قد يرغبون بمتابعة معارك طواحين الهواء الخاصة بهم عبر إعادة إنتاجها في هذه الحرب.
الفرق الأساسي بين الأساطير السوريلية وتلك العارفية لا يكمن في علاقتها بالواقع، أي أن السوريلية وصف «صحيح» للواقع فيما «العارفية» وصف «خاطئ» له. في النهاية، إن اقتنع الناس بأنهم «عمال» وعليهم أن يتصرفوا تبعاً لهذه القناعة، ستصبح الطبقة هي الهوية «الحقيقية» والصراع الطبقي هو الصراع الوحيد «الحقيقي». أما إذا اقتنعوا أنهم سنة وشيعة، فستكون سنيتهم وشيعيتهم هي المعطى «الحقيقي»، كما ستكون الحرب الطائفية هي الحرب «الحقيقية».
الحقائق الاجتماعية ليست مستقلة عن إدراكنا ووعينا بها مثل حقائق العالم الفيزيائي، والفرق بين نوعي الأساطير يكمن في العلاقة مع الذات، مُنتِجة هذه الأسطورة. معتنق الأسطورة السوريلية «صادقٌ» فيما يدعيه ويتصرف على أساسه، يقاتل ويموت. فيما مُنتِجُ الأسطورة العارفية «كاذبٌ» فيما يدعيه، وهو نفسه لا يتصرف بمقتضى مع يدعيه7.
لا يمكن لنا فهم هذه النزاعات انطلاقاً من الأساطير التي يروجها المتنازعون أنفسهم بصدد نزاعاتهم في المجال العام وعلى وسائل الإعلام، والإصرار على مثل هذه الأساطير سيجعل إمكانية التواصل من أجل التوصل إلى حلٍّ مسألةً غايةً في الصعوبة، بل الاستحالة، حيث لا يكون مصدر النزاع محل النقاش، بل يدور النقاش حول مسألة مزيفة تماماً.
الخلاف بين الحوثيين وأعدائهم ليس على الموقف من النظام الرأسمالي العالمي، والخلاف بين النظام العراقي وأعدائه ليس على الصراع مع إسرائيل، والخلاف بين النظام السوري ومحاربيه ليس على العلمانية واستقلال القرار الوطني. الخطوة الأولى لفهم ما يحصل في بلادنا هي إهمال ما يقوله أهلها علناً عمّا يحصل لديهم، تكذيبهم وليس تصديقهم، والإنصات لهم فقط عندما يكونون لوحدهم، عندها قد نحصل على بعض الحقيقة.
-
المصدر :
- الجمهورية