انتهت الحرب العالمية الثانية مع إلقاء القنبلة الذرية فوق مدينتين؛ هيروشيما وناغازاكي وتحويلهما إلى ركام وأطلال، ومقتل الآلاف من الأهالي، ما أنذر بنشوء سلاح ذي قدرة هائلة على التدمير، وكان في حصول الاتحاد السوفييتي على أسرار صناعتها، نشوء ظاهرة مرعبة، تتنبأ بأن أي حرب مستقبلية تشارك بها الدول الكبرى، ستُحدث إبادة جماعية مع إزالة مدن من على الخارطة.

توافر القنبلة الذرية لدى الأميركان والروس، أطلق المخاوف، وكانت قد ترسخت حول الحماقة البشرية التي لا يُؤمن لها، فالشر مؤهل لتجاوز الحدود كلها، خاصة وأن الدولتين خرجتا لتوهما من حرب حصدت الملايين، ولا يمكن الاطمئنان لرجاحة عقول قادة لا يقلون بربرية عن البرابرة، كل منهم يريد القضاء على الآخر، وقد تقدمان على حرب، نتيجة هفوة، لن تترك وراءها سوى أرض يباب. إنها حرب الخاسرين التي لن يربحها أحد.

كان للرعب الذي استولى على البشرية آنئذ، جانب إيجابي يبعث على السخرية، أن القنبلة الذرية نفسها، نزعت فتيل الحروب الساخنة؛ جرت الاتفاقات بين الدولتين على إبعاد الحروب عن القارة الأوروبية، مع عدم التنازل عن الحرب، على أن تكون بلا دبابات وطائرات وتبادل نيران، تدور بين أيديولوجيتين، كل واحدة أسوأ من الأخرى، تتجلى على الأرض بحرب استخباراتية، ضحاياها الجواسيس من عملاء الدولتين وحلفائهما. مهما يكن، ابتعد شبح الحرب العالمية الثالثة.

” انتقلت ساحات القتال الكبرى إلى المستعمرات المستقلة حديثاً”

تأكيداً على الحروب الممنوعة في العالم المتقدم، جرى ترحيلها إلى العالم الثالث، وكان يُدعى حسب تصنيفاتهم بـ”العالم المتخلف”، وجرى معها ترحيل نسخ معدلة عن الأيديولوجيات المعتمدة في العالمين الرأسمالي والشيوعي، إذ لا حرب من دون أيديولوجية. فانتقلت ساحات القتال الكبرى إلى المستعمرات المستقلة حديثاً.

أما بشأن الضمير، فقد جرى إسكاته، بدعوى أن العالم المتخلف، عالم تحت النمو، وقد لا ينمو أبداً، والحروب تؤدي خدمة لهذه البلاد بالتخلص من زيادة النسل، وتفشي الفقر والجوع والمرض… ساعدها العملاقان الأميركي والروسي بالسلاح التقليدي يتقاتلان به، آخذين بالاعتبار أنه مهما كانت الحرب مدمرة، فهي تدور فوق أرض جرداء، ومهما وقع من قتلى، ولو بالملايين، فتسارع النسل يعوضه. أما الفائدة، فتخليصه من عاهاته وأمراضه.

لم يعد مصير “الإنسانية الغربية” من رأسمالية وشيوعية مهددة بالحروب، طالما أن حرب الجواسيس الآمنة مستمرة في أوروبا، خسائرها عشرات العملاء من الطرفين، وبذلك احتفظت أوروبا بديمقراطياتها وعقلانياتها وعلمانياتها وليبرالياتها وديكتاتورياتها، وما تبقى من أديانها… سليمة لم تمس. ليعم الاستقرار العالم المتقدم، وتُرك العالم الثالث لمنطق النزاعات الأهلية والقبائلية، فانحدر إلى ما دعي سراً حسب تصنيف واقعي بـ”العالم الرابع”، غير أن المصطلحات السياسية لم تسمح، لئلا يبقى مصطلح العالم الثالث شاغراً من البلدان. فاخترع مصطلح “الدول الفاشلة”، للدول التي لم يعد لها مستقبل ما في العالم.

” رحّلت الحروب الممنوعة في العالم المتقدم إلى “العالم الثالث””

بالعودة إلى ما بدأنا به، لو أن الغرب يتعلم من تجاربه لتعلم مما تكبده من خسائر في الحرب العالمية الأولى، لكنه أعاد الكرّة بعد نحو عشرين عاماً بحرب عالمية ثانية أقسى من الأولى، بعدما تطورت صناعة الأسلحة، وتضاعفت قدرتها على الإفناء.

في عالمنا الحالي، ليس فقط الغرب، بل العالم كله، في هذا القرن، قرن الارتداد عن الحريات، والواعد بعودة الاستبداد، تتهيأ فرص أكبر للإبادة، فالأسباب واردة؛ إثنية وقومية، عرقية ودينية، يستغلها السياسيون في الانتخابات، للقفز على السلطة والاستفراد بها، ولا يشترط في الإبادة استعمال القنابل النووية لئلا تحدث ضجيجاً، بعدما باتت الأسلحة الكيميائية والبيولوجية توفر حروباً صامتة تكفل إبادة تبدو وكأن الهواء يصنعها، أو القدرة الإلهية، ما دام هناك من سيقول إنها غضب الله.

ترى ما ضمانة البقاء على وجه البسيطة، عندما تصبح طموحات السياسيين تقارب الجنون؟ لو أن هناك سلطة فوق أرضية، لكان في وضعهم بمصحات عقلية سلامة لبلدانهم وللعالم أجمع.

الأمر المثير للتشاؤم، هبوب رياح كورونا، وأن تستهدف أكثر ما تستهدف أميركا وأوروبا، وليس غريباً أن يعلن قادتها أن حرباً شُنت عليهم، وإذا أراد العالم الثالث، أو العالم الفاشل الشماتة بهم، فقد يقال إنها عدالة السماء، لكن السماء لا تتصرف دونما تقدير للعواقب، وربما دفعت الدول المتقدمة إلى التفكير والتأمل، وإدراك أن الإنسانية ليست مقتصرة عليهم، وإذا كان هذا العالم يريد أن يكون متحضراً فعلاً، فإخماد حروب المرض والجوع والفقر… ولا ننسى تلك الحروب التي بات من الممكن التنبؤ بها، كتسلل فيروس من مختبرات علمية تعمل على تطوير وباء لاحق من وباء سالف، سواء كان عن غفلة أو إهمال، فماذا لو كان متعمداً؟

إن العمل على سلام حقيقي يعم البشر يكون بتنظيف العالم من الحكومات الشمولية وأشباهها من حكومات تدّعي الديمقراطية، فيما قادتها يحلمون بأمجاد إمبراطورية، وإلا بقي الخطر ماثلاً يهدد الكوكب، فالحروب الصامتة قادرة على قتل البشر بصمت.