للفايسبوك خاصية مثيرة، القدرة على احتلال مساحة في برنامج الحياة اليومية للمشارك فيه. مع مرور الزمن، يأخذ مساحة أكبر من نشاطه ووقته، فلا يستغنى عنه. والمردود غير مكافئ، إذ يسهم في تكوين عادات بديلة، فالاعتياد على قراءات أشبه بالعناوين أكثر منها مقال مختصر، يُفقد الاهتمام والقدرة على قراءة مقالات طويلة وجادّة. فالفايسبوك لم يخصّص أصلاً للجهود الفكرية ذات النفس الطويل، ولا شأنه البحث بما تطرحه مجلّدات الفلسفة العوّيصة والمعارف الإنسانية. وإن كان مفيداً بالإحالات إلى المقالات المهمّة، والاطّلاع على سير الأحداث من شهود عيان.

بالعودة إلى الغرض الذي تؤدّيه وسائل التواصل الاجتماعي من وجودها. السؤال، هل تحقّق قدراً معقولاً من التعارف والتفاهم؟ أمر جيد أن تتّسع لدى الفرد دائرة أصدقائه، ودائرة من يتحاور معهم. ففي تبادلنا الأفكار فرصة مثيرة لفهم الآخرين، تؤثر في انخفاض وساوسنا وتحفّظاتنا عليهم، وإدراك أن الاختلافات بيننا أقل مما نعتقد بكثير. غير أنه في ظلّ الأوضاع المضطربة في المنطقة العربية والصراعات المحتدمة، حقق تواصلاً نوعياً عكسياً، يجدر التنبيه إليه، ليس في أننا صحونا على أن الاختلافات بيننا أكثر مما نعتقد، بل في أننا استمرأناها، وأصبحنا نختلق ما نختلف عليه، ما أدّى بنا إلى الإخفاق في سعينا إلى التقارب وكسر وهم الحواجز بيننا، وكرسناها على أنها حقائق نهائية، حتى أن الكثير من الصفحات غدت وسيلة لترويج شائعات، الغرض منها بث الفتن والسموم، وكأن هناك تراجعاً في القتل على ساحات القتال، يستوجب تعويضه بمساهمة المنحازين إلى كل طرف بالشتائم والتحريض على حرب يجري التخاطب فيها بالرصاص والقنابل، لا وسيلة لجلاء الاشتباه بمقاصد الآخر. أما إذا كانت هذه الصفحات مفتوحة للكشف عما في دخيلتنا، فلماذا هي بهذه الوساخة؟

هذه الحروب الافتراضية لا تقلّ شأناً عن الحروب الحقيقية، بما تزوّدها به من شرور وجنون وتحريض. كان أمل الكثيرين في أن تسهم صفحات التواصل الاجتماعي بإنشاء فسحة خلفية، تحتضن حواراً متواصلاً بين أطراف جماعات الوطن الواحد، تأخذ حيّزاً يتوسع على حساب حرب الأسلحة والتدمير. وكان الأمل منها أيضاً أن تمثل عقل الشباب المفكر، لكنها بحكم التخندق المبكّر، وتمسّك كل طرف بموقفه، لم تحدث اختراقاً ولو جزئياً، بل مزقوا بعضهم بعضاً، بحرب كانت إضافية لا تتوقف ليلاً ولا نهاراً.

وإذا كان التضامن في طرف جمهورالنظام ملحوظاً بقوة، فالتمزّق في طرف جمهور المعارضة ملحوظاً أيضاً وبقوة. فالجمهور الناشط مع الثورة، لم يدع رمزاً لم يشوّهه ويتّهمه بالخيانة والعمالة، مع أنه من المعروف أن الأنظمة ومثلها الثورات تشكّل المساعدات الخارجية بأنواعها لاسيما العسكرية، رافداً هاماً يساعد الطرفين على الاستمرار. وهو بلاء عمّ الثورة، بينما اعتبر لدى الطرف الآخر، نجدة للمانعة لا يستقيم الدفاع والهجوم من دونه. وهكذا صحّ أن يكون اتهاماً لطرف، وتزكية لطرف آخر.

ويمكن الملاحظة أيضاً، أن القائمين على الصفحات المنحازة للثورة، أتاحوا تحت ذريعة النقد وحرية الرأي تشكيل مجموعات، عكست التمزّق في ميادين القتال بين مجموعات المعارضة المسلّحة بأنواعها الإسلامية والجيش الحرّ. بل وحصل تداخل بينهم، فلم يعودوا مستقلّين عنهم، باتوا جزءاً منهم. الاصطفافات الحاصلة، والانحيازات المسبقة حدّدت وجهة مناقشات، لن تفضي إلى شيء، وليست إلا مبرّرات وذرائع، لتهديم ما يبنى، وانكشاف أوضاع متداعية، التغيير ليس أمنيات، أو بالنقد الأهوج، والشائعات، ولا الاستمتاع بشتم ممثلي الثورة سواء كانوا من الائتلاف أو التنسيق أو … الحرية التي ناضل من أجلها الشبان، ينبغي ألا تهدر على القيل والقال.

تمييع الحرية إلى الحدّ الذي تفقد فيه وجهتها في التعبير الصحيح، تصبح عائقاً أمام متغيرات تُعنى بمفهوم الحرية، المؤسف أن الحرية يجب أن تمرّ بفترة مراهقة طائشة، تخسر فيها أكثر مما تربح.