أثبتت تطورات الأزمة السورية أن النظام السوري يقرأ السياسات الدولية بشكل جيد، ليس لأن هناك من يساعده على قراءتها، ولو كانوا من الخبراء المتحالفين معه. وإنما لجانب لا ينبغي أن يغمط حقه من الثناء، وهو براعة الخارجية السورية المشهود لها في اللعب على الوقت، والاغراق في التفاصيل، والمهل الطويلة، والانكار اللامسؤول، كي لا نقول الخداع، الدبلوماسيات لا تستعمل هذه الكلمة، مع أنها تعبر عن الواقع أكثر من سلسة المهارات الآنفة الذكر. تلك ميزة قلما تحققت بهذا النفس الطويل في بلدان الشموليات المتحجرة، النظام السوري فصل بين الخارج والداخل، ونجح في تركيز عقلانيته على الخارج، أما الداخل فلم يصرف فيه وقتاً كثيراً تركه للجيش والميليشيات والبراميل المتفجرة.

في اطار خبراته السياسية، من باب جهوده للتقارب مع الاستراتيجية الأمريكية، أفلح في قراءة أولوياتها، وأحسن تفهم الرسائل عبر الوسطاء، فقد كان ينتظرها، وزج بطائراته في الاستراتيجية الغامضة التي أصبحت واضحة، إلى حد زعم أنه والأمريكان باتا في خندق واحد في مجال مكافحة الإرهاب.

في الواقع واصلا تعاونهما القديم. المتفق عليه، كان يقدم المعلومات الاستخباراتية، مقابل أن تغض أمريكا النظر عن تجاوزاته. امريكا اعتادت على تكليف حكومات من العالم الثالث بتنفيذ العمليات القذرة، حيث لا مساءلة، وهي من نوعية التحقيق لحسابهم مع المشتبه بهم باستخدام أساليب في التعذيب، تنجح في انتزاع المعلومات، أو تؤدي الى انتزاع حياتهم. لا تتجرأ بلدان الديمقراطيات النظيفة على القيام بها خشية من الرأي العام في بلدانهم. والآن، لئلا تخرق قوانين الحرب.

التعاون جار على هذا المنوال، طالما هناك بلدان تتطوع للقتل والتعذيب، كشهادة أمريكية لها على حسن السلوك. النظام السوري لا يتطوع، وإنما يستغل نقطة الضعف هذه، فالأمريكان في حربهم مع “داعش” يريدون حجماً أكبر من القتل، لكن يخشون إيقاع خسائر كبيرة في المناطق المدنية، النظام لا مشكلة لديه، كان المدنيون من قبل حاضنة للثوار، والآن حاضنة للإرهابيين. هذه الذرائع يطيب للأمريكيين سماعها ما يخفف الشعور بالذنب.

أطلقت الحرب على “داعش” يد النظام، فالغارات الجوية التي شهدتها “الرقة” أوقعت أضراراً في عدد من المنشآت العامة مثل المتحف الوطني والمنطقة الصناعية ومسجد، وخلفت 220 مدنياً بين قتيل وجريح. ما يدل أن القصف لم يكن عشوائياً، بل منتظماً استهدف المدنيين فقط، حسب الأمين العام للأمم المتحدة، و”أن إصرار التحالف على عدم وضع حدّ لمجازر الرقة، يعني أنّه إقرار بالجريمة وتقديم خدمات مجانية لقوات الأسد” حسب الأمين العام أيضاً.
أمريكا على لسان المتحدثة باسم الخارجية نددت بالغارات الجوية “المروعة”، متهمة دمشق بارتكاب “مجزرة متواصلة”. وحسب البيان: “نشعر بالهول حيال التقارير التي تفيد بأن الغارات الجوية التي شنها نظام الأسد في الرقة أسفرت عن مقتل عشرات المدنيين ودمرت مناطق سكنية!!” كانت اعترافاً امريكياً بتسلمهم رسالة النظام: لا تهاون في تنفيذ المهمة.

هذا التحالف الذي كان ضمنياً وأصبح علنياً، سيكلف السوريين المزيد من الضحايا والدمار، مقابل قبول أمريكا النظام شريكاً للحرب على الإرهاب لا غنى عنه، سيقدم لها خدمة كبيرة بتحمل التبعات الأخلاقية التي لا يستطيع التحالف تحملها، فالنظام الذي اعتاد على ارتكاب المجازر طوال ما يقارب الأعوام الأربعة، لن يضيره على الاطلاق ارتكاب مجازر إضافية قد لا تحظى بتجاهل الولايات المتحدة، وإنما بغفرانها، وتسمح له بقصف المناطق الأخرى الآهلة بالمدنيين الذين تظاهروا ضده، وحملوا السلاح دفاعاً عن حياتهم.

المساهمة الأمريكية ستحقق فرقاً نوعياً في ارتفاع أرقام القتل، لا أضرار منها بعد توقف إحصاء أعداد القتلى. وحسب رئيس الشبكة الحقوقية لحقوق الانسان السورية، أن النظام السوري قتل من المدنيين من سكان الرقة بعد سيطرة “داعش” على المدينة وحتى الآن أكثر من 197 مدنياً. أما عن المدنيين الذين قتلهم تنظيم “داعش” في الفترة نفسها، ما لا يقل عن 33 مدنياً، بينهم أطفال وثلاث نساء.

تميل المحصلة الإيجابية لصالح النظام وتتفوق على “داعش” في القتل والتدمير. الفارق أن النظام يقتل بمباركة دولية، بينما “داعش” تواجه ما تستحقه من إدانات ولعنات، مع تجييش الجيوش ضدها وقصف مواقعها، مع كل ما يحيط بها، ولو كان على بعد آلاف الكيلومترات.

الإضافة الجديدة في مسلسل الأزمة السورية: أمريكا أعلنت الحرب على الشعب السوري بالوكالة، حرب نظيفة أشبه بنزهة، من دون أي تبعات أخلاقية.