جرى العُرف لا القانون على مَنْح الحكومات سُلطة التحكُّم بـ حرّية التعبير، حمايةً للأمن العامّ في الدولة التي لم تكن حريصة عليها، بقدر ما منحت نفسها الحرّية في الإطاحة بها، لم تتوقّف عند حدٍّ، ولم تعبَأ بأيّة ضوابط، وكلّما ترك لها حقّ التصرّف، يسعى السياسيّون للظفر بسُلطة مُطلقة على حساب حرّية التعبير، التي لا تعني بالنسبة إليهم إلّا كفّ الانتقادات عن سياساتهم وتعريض طموحاتهم للمساءلة. في التاريخ القريب أكثر من دليل على عدم تورّع السُّلطة عن استعمال الوسائل البوليسية، حتى أنّ حكومات ديمقراطية، في حال انكفاء الرأي العامّ، قد تُبيح لنفسها استخدام وسائل قمع سرّاً أو علناً، لا تقلّ عن وسائل الدولة الشمولية.
هذا هو الدرس الذي تعلّمته أميركا من الحملة المكارثية، التي بلغت نشاطاتها الذروة في التعدّي على مختلف مناحي الفكر والثقافة خلال خمسينيات القرن الماضي بعد الحرب العالمية الثانية، نجح عضو الكونغرس جوزيف مكارثي في إنشاء لجنة تحقيق لمُطاردة “الخطر الأحمر”، كانت مهمّتها تقصّي انتشار الشيوعية داخل الأراضي الأميركية، بموجب قائمة سوداء، لم تستثنِ التيارات اليسارية ولا المثقّفين المُتعاطفين معها، عملت على إدانتهم بناءً على شُبهات حول الانتساب للحزب الشيوعي. كانت الاتهامات في أغلبيتها غير منطقية وبلا أدلّة، ما تسبّب في فُقدان الآلاف وظائفهم بلا دليل واضح. بلغت حملة مكارثي حدّ تأسيس مُخبرين وشرطة ضدّ الفكر والفنّ والأدب، كذلك استخدام خطاب ديني، يُدافع عن المسيحية ضدّ الشيوعية كـ”دين مُلحِد”، يهدّد الإيمان المسيحي.
درسٌ من التاريخ القريب لم تستفد أميركا من عدم تكراره
أميركا لم تستفد من هذا الدرس، والمقصود الساسة الأميركان، ما يتكرّر اليوم، يُمكن وصفه بقمع حرّية التعبير في الجامعات، والأمر ليس مجهولاً، فالمال اليهودي – الصهيوني بالأحرى – لطالما أملى على السياسيّين رعاية “إسرائيل” كدولة تُسوّغ ديمقراطيتها الدفاع عنها، وفي الوقت نفسه تمثّل القبضة الحديدية للسياسات الغربية في “الشرق الأوسط”. طوال عقود، كان دأبُ اللوبيّات الصهيونية تكريس “إسرائيل” كدولة يهودية تجمع شتات يهود العالَم، وكأنّ انتزاع فلسطين من أصحابها، يعوّضهم عمّا عانوه من اضطهاد في أوروبا، ويُبرئ من الذنب ساحة الغرب المهووس في التكفير عن جريمته. وكان في تصوير “إسرائيل” على أنها ضحية، ما يقلب الأدوار مع محيطها العربي، وهو دور مُستمدٌّ من الهولوكوست النازي، ولم يكُن لكيان مُختلق أن ينجح في الوجود إلا بعملية تتبنّى المنطق الاستعماري البَحت، فكان الاحتلال والاستيطان بالقوّة.
بعد عملية السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، أبدت أغلب الجامعات الأميركية مواقف مؤيّدة لـ”إسرائيل”، وسمحت إداراتها في الوقت نفسه للطلّاب بإبداء احتجاجاتهم والتعبير عن غضبهم من مجازر الجيش الإسرائيلي في غزّة بحرب لم تُخف أهدافها كحرب إبادة، مع هذا تعرّضت إلى ضغوط أجبرت ثلاث رئيسات جامعات إلى الاستقالة، بحجّة أنهنّ لم يُؤيّدن “إسرائيل” بدرجة كافية.
في الوقت الذي أُطلقت فيه الحرّية للجماعات المؤيّدة لـ”إسرائيل”، كذلك لمختلف السُّلطات للنيل من الجامعات، فاستُهدف الأساتذة والطلّابُ المناصرون للقضيّة الفلسطينية. منذئذ لم يوفّروا الاغتيال المعنوي، واختلاق الأكاذيب، إضافةً إلى اجتزاء انتقادات الطلبة، وتأويل شعاراتهم على أنها ضدّ الساميّة، وتدعو إلى الكراهية، والتهديد بسحب الدعم الفدرالي عن الجامعات غير المتعاونة، ما أجبر بعضها على اتّخاذ إجراءات وقائية طاولت المنظّمات والطلبة، وهدّدت المسار المهني للأساتذة، بعدم تعيينهم في إداراتها، بحجّة تعبيرهم عن وجهات نظر مُعادية للساميّة، إلى جانب التشهير بالطلّاب المؤيّدين للقضيّة الفلسطينية داخل الجامعة بتعليق أسمائهم على الجدران. كما أدّت بعض الإجراءات إلى ملاحقة كلّ من ينتقد “إسرائيل”، واعتقال أكثر من مئة طالب لاتّهامهم بالاعتداء على مُمتلكات الغير، وإخلاء الخيام التي أُقيمت في الحديقة الرئيسية، كما أوقف عن الدراسة مؤقّتاً عشرات من الطلّاب المشاركين.
تُعيد أميركا اليوم سيرتها على نحو مختلف، في نيويورك ولوس أنجلوس وبوسطن وشيكاغو وأوستن وأتلانتا… وذلك بالحرب على جامعات مرموقة مثل “هارفرد” و”برينستون” و”كولومبيا”، ما أعاد إلى ذاكرة العالَم أنه منذ الحرب على فيتنام، لم تشهد أميركا اشتباكات عنيفة بين الشرطة والطلّاب. تجلّت هذه المرّة بتقييد المظاهرات والاعتقال والطرد، بسبب نشاطات طالبت بوقف الحرب، تم الردّ عليها بشكل منهجي ومتعمّد تحت عنوان “مكافحة معاداة الساميّة” لإسكات أية انتقادات لـ”إسرائيل”.
-
المصدر :
- العربي الجديد