يكتب فواز حداد الرواية بدأب شديد. يمشي في خط تصاعدي، فلا ينهي عملاً حتى يبدأ آخر. قد تكون الرواية الجديدة متفرعة عن تيمة في رواية سابقة، أو أنها منقطعة عنها في عوالمها ولغتها وحجمها، لكنهما تلتقيان معاً عند نقطة مفصلية ضمن البناء العام لمشروعه، الذي يشتغل عليه وفق خريطة طريق مدروسة ومرسومة بعناية. وربما هذا ما يفسر أن الفواصل الزمنية بين رواية وأخرى لا تبتعد كثيراً، وهي تصل في اقصى حد إلى عامين، وهذا واضح في الأعمال الثلاثة الأخيرة، الصادرة دائما عن دار رياض الريس في بيروت: “تفسير اللاشيء” 2020، “يوم الحساب” 2021، و”جمهورية الظلام”، وهي الرواية الأخيرة التي صدرت في آذار الماضي، وتبدو أنها حصيلة عمل وتأمل وبحث استمر عدة سنوات، نظراً لموضوعاتها المتشعبة والإشكالية، ولذا فاقت في حجمها سابقتيها، حيث تجاوزت 475 صفحة من القطع الكبير، وهي بذلك تحيلنا إلى رواية الكاتب الشهيرة “السوريون الأعداء” 2014، وأثارت الكثير من الجدل وردود الأفعال، لأن أحداثها تدور في سوريا، خلال المرحلة التي سبقت الثورة، وما حفلت به من محطات مهمّة مثل مجزرة حماة في مطلع ثمانينيات القرن الماضي.

يوحي عنوان الرواية الجديدة أننا أمام عمل يتحدث عن جمهورية دينية متزمتة، لكن كلمة الغلاف الخارجي تفصح عن نظام آخر جديد، “لا نظير له، ليس جمهورياً ولا ملكياً، لا رأسمالياً ولا اشتراكياً”. هو النظام الأبدي الذي جرى تصميه ليبقى دائماً، ويستمر فيه الرئيس خالداً. هذا التقديم يتقاطع كثيراً مع عوالم جورج أورويل في روايته “1984”، ومحاكم التفتيش في عصور الظلام، لكنه يدل صراحةً إلى ما تتمتع به من محلية عربية، تجد تعبيرها في سوريا التي تعددت أوصافها بين جمهورية الخوف، وجمهورية الصمت، وهنا يجد القارئ نفسه أمام نسخة جديدة وهي جمهورية الظلام أو النظام أو الإعدام والغرف السوداء، ويدرك منذ أن يقع العمل بين يديه أنه أمام رواية سياسية بامتياز، عنا نحن بالذات. فما أن يقلب الصفحات الثلاث الأولى حتى يجد فهرساً تفصيلياً، يشبه تلك التي تبدأ بها كتب الأبحاث التي تنقسم إلى فصول. تبدأ الرواية من الفصل الأول الذي يحمل عنوان: الفرع 333، وتنتهي عند الفصل الثامن والعشرين: الحقيقة، الذي يكشف فيه الكاتب عن وجه الراوي.

“الفرع” مفردة ذات معنى خاص في سوريا، غير المتعارف عليه في اللغة العربية. وما أن يسمع السوري هذه المفردة، حتى يدرك أن الأمر يتعلّق بأجهزة المخابرات، التي تشكّل منها عدد كبير في هذا البلد، كي تكون بمثابة العمود الفقري للنظام الذي بناه الرئيس السوري السابق حافظ الأسد، من أجل ديمومة حكم العائلة الذي تتوارثه الأجيال، وهذا أمر لا يمكن أن يتحقق بلا الرعب الذي تبارت في تجسيده الفروع الأمنية، ولذلك دخلت في كل تفصيل من تفاصيل حياة السوريين، بما في ذلك شؤون الزواج والطلاق ودفن الموتى وحلاقة الرؤوس والأعراس وكتابة الرواية والمسرح وصناعة السينما.

أراد الكاتب أن تبدأ الرواية من فروع الأمن، كمدخل يمهد للقارئ الطريق إلى أجواء النظام العامة ومساراتها، من السياسة في اتجاه بقية مناحي حياة السوريين، التي صارت محكومة بالخوف في أدق تفاصيلها، ومنذ الصفحة الأولى تحضر مفردات القاموس السوري الخاص، التحقيق، تهمة التجسس والتآمر والتعامل مع الخارج ووهن نفسية الأمة، أقبية التعذيب، الضرب، الرعب، الانهيار، الموت. وللمفارقة فإن المشهد الأول هو عبارة عن مواجهة بين محقق جامعي، ومعتقل متّهم بتزويد منظمات الإغاثة الإنسانية بأسماء متطوعين اختفوا، وضاعت آثارهم بين سجلات الفروع والمعتقلات.

يدور القسم الأكبر من الرواية داخل عوالم فروع الأمن التي تحكم سوريا فعلياً، ويسلّط الربع الأول منها الضوء على سطوة أجهزة المخابرات، ويرسم بورتريهات لكل من العميد مدير الفرع الذي يتحلى بمواصفات الصوت العالي، ويفكر بعضلاته، وليس لديه أسلوب للتفاهم سوى البطش والتعفيس. يعامل الكُتّاب كالحشرات، وأكثر ما يضحكه أن هؤلاء يريدون تغيير العالم. يليه المخبر الذي يتجسس على المثقفين، وهو لم يكن مخبراً عادياً، بل ضابطاً محالاً على التقاعد وشاعراً صاعداً، ومع أنّه أصبح ضابط أمن “اتحاد الكتاب”، لكنه كان من جنس الأدباء وهو الأدرى بهم، ولذلك يغدو لقبه الشاعر المخبر مع ما فيه من إساءة للشعر، بيد أن الشعراء براء منها. ومن ثم المحقق الحاصل على شهادة في الحقوق، وذو ماض سياسي يساري يتعاطى مع معتقلين لم يعارضوا الدولة ولا القانون، بل نظام المخابرات، ولذلك يبدي مرونة ومهنية خلال التحقيقات، يسكنه هاجس الشفاء من ماضيه، من خلال انقاذ أناس بائسين من الرعب والموت في مراكز التعذيب، والذين تعود قلة قليلة منهم إلى الحياة، ويستمر في عمله رغم أن القصر الجمهوري لا يحبذ وجود محقق دمشقي في فرع أمني في فترة الثورة. فـ”الدمشقيون ليسوا خونة للنظام ولا جواسيس، وإنما غير حرصاء على الأمن مع ميلان للأقرباء والمعارف، وهم يكرهون النظام، باستثناء بعض التجار المنتفعين”.

وتركز الرواية في ربعها الأول بشكل خاص على علاقة فروع الأمن مع الكتاب من شعراء وقصاصيين وروائيين ومسؤولي الصفحات الثقافية، الذين يرتبط بعضهم مع أجهزة الأمن، وتقدم شخصية القاص الذي يعمل سائق ميكروباص في المساء، ويخصص الصباح للكتابة والدعاية لقصصه. ويتخذ المخبر من احدى قصصه مادة للتحريض عليه، بعد أن نبش فيها كي يحملها أكثر مما تحتمل، مؤولا إياها على أنها تخفي دعوة للقيام بانقلاب يسميه الكاتب الخصوصية السورية. واتحاد الكتّاب الذي يلعب دور جهة رقابية على الكتّاب، ينحو المخبر لتجييرها لصالح أجهزة الأمن. وتذهب الرواية في تشخيص العلاقة بين الكتاب والسلطة والتي تنحصر بأجهزة الأمن التي تعمل كأداة لنظام شمولي مهووس بالرقابة، كما تتناول موقف الكتاب من الثورة السورية، وفي جانب منها يرسم الروائي صورة كاريكاتورية عن علاقتهم بالثورة والمعارضة، وموقفهم الرخو من السلطة. ويرى في مشاكل بعض الكتاب أنها غالباً ما تكون عاطفية وبلا سبب سوى الضجر، فيعشقون بمناسبة ومن دون مناسبة، “بلا وصل ولا وصال، يجسدون الحداثة بصورتها الإباحية المتخيلة”. وعندما كانت المظاهرات تهدر في الشوارع، تورطت علاقاتهم العاطفية بعد تفاقم الاحتجاجات بالانقسام السياسي بين المعارضة والموالاة، ويدقق حداد في تفاصيل لا تخطر إلا على بال الدارسين المختصين “وأسوأ ما حدث أن يعشق أديب معارض أديبة موالية وبالعكس، فيكتسي الغرام بالنكد والمكايدة”، لكن ما يهمه أكثر هو ظهور الانقسام بين معارضين وموالين، حينما اتخذت الشجارات الكلامية منحى خطيراً على وقع تقدم الجيش الحر وخسائر الجيش النظامي، كذلك على وقع تقدم الجيش النظامي وخسائر الجيش الحر، ثم يتسارع الفرز على إيقاع مجازر الشبيحة، وتظهر الشتائم السياسية الملغومة بالبذاءة: الشرمطة القومية، القوادة الاشتراكية، العهر الليبرالي، التعريص الامبريالي، الفحش العولمي، النخاسة الدينية، الفجور الديموقراطي.

يأخذ الكاتب من مقهى الروضة التاريخي في وسط دمشق بالقرب من مبنى البرلمان مسرحاً تلعب فيه العديد من الشخصيات أدواراً يومية تتراوح بين الدسائس السياسية والعاطفية والجنسية، التي يمكن استخدامها كفضيحة تخرب بيوتا وتشرد عائلات، باعتبار أن الوطن يحلل استعمال كافة الوسائل، فيتحول المقهى من مكان لشرب الشاي والقهوة والنارجيلة، إلى ملعب للتجسس على الأدباء وممارسة التنمر وإطلاق الاشاعات وعقد الصفقات العاطفية. طاولة معهودة للمخبر، وأخرى للمسؤول الثقافي في جريدة رسمية.

الشعار الشهير الذي أطلقه حافظ الأسد في السبعينيات من القرن الماضي “لا رقابة على الفكر سوى رقابة الضمير”، يتحول في الرواية إلى مادة للسخرية من النظام الدموي، ويعتبر المخبر نفسه من موقعه في اتحاد الكتاب يمثل “الضمير”، لكن إذا كان الضمير رقيبا، “فلن يمثله سوى المخابرات” حسب رأي العميد، وفي هذه الحالة تمثل الهراوة تأنيب الضمير، والكرباج وخز الضمير. وتبرز على نحو خاص هنا شخصية المهندس، التي تحتل مساحة أساسية في الرواية، مثلما هو الأمر في رواية “السوريون الأعداء” وفي رأيه يستدعي الخلاف إنشاء فرع أمن خاص بالأدباء كـ”مكرمة رئاسية” يحمل رقم 650 على غرار بقية الفروع، رغم أن “الأدب مثل الشعب، لم يوضع على لائحة اهتمامات الدوائر المعنية في القصر الجمهوري”.

ولم يصدق العميد أن الرئاسة ستضيع الوقت والجهد على أدباء لائحة جرائمهم لا تزيد على الكتابة في الغرام والفقر، الياسمين والنساء، العشق والجنس. والخلاصة لا يستحق الأدباء فرعاً مكرساً لهم. بينما رأي المهندس غير ذلك؛ دور الفرع هو فضح وسائل الأدباء في التخفي وراء شعارات حرية التعبير. وتشبه شخصية المهندس رجل المخابرات بهجت سليمان الذي تخصص بالمثقفين لزمن طويل. ما يعكس الاهتمام بمسألة تعاطي الأجهزة مع الأدباء، مع الأخذ في الاعتبار أن الأدباء نائمون فلماذا إيقاظهم، والتحرش بهم قد يثيرهم ضد السلطة. وقد أثار هذا الرأي رئيس الفرع المخصص للأدباء الذي اعتبر كأنه “رئيس جمعية الرفق بالأدباء”. ولكن رأي المفوض هو يستحيل وجود فرع كهذا، هذا مضاد لطبائع أجهزة الأمن، وإذا وجد فللإيقاع بالأدباء. “لا نريد أن نمنح الأدباء الأسباب ليقفوا ضدنا، قد يصبحون غنيمة سهلة للإسلاميين، مثلما كانوا غنيمة لليساريين” بينما كان الفرع في الحقيقة حلاً لأزمة ضربت العائلة الرئاسية، وان كما بدا حلاً للخلاف حول مفهوم الضمير، من خلال إيجاد فرع خاص للأدباء.

في هذه الأجواء تذهب الرواية نحو قضايا أخرى، منها بالخصوص عمل أجهزة المخابرات، جرائم اقبية التعذيب، اغتصاب النساء، الذي تحول إلى أسلوب في التعذيب، وصار في نظر المخابرات أداة فعالة في التحقيق، أثبت جدواه في العام الأول للثورة، ولكنه ليس الوحيد الذي استخدمته الأجهزة من أجل القضاء على الثورة بكل الوسائل. كذلك في النزاع الحاصل بين الجيش والقصر الجمهوري حول تكييف مفهوم الشهادة بين العمل الانتحاري والفدائي، إلى أي مدى ينسجم مع الدين والعلمانية؟