في مناسبة قومية، وربما في اجتماع مع أعضاء القيادتين القطرية والقومية نقله التلفزيون السوري، تبرع الرئيس الخالد للشعب (يومها لم يكن لقب الخالد قد اخترع، ولا جرى تعميمه) بقطعة أرض كان يملكها في بلدته، ردا على ما يبدو شائعات تناولت بالسوء سمعة العسكر القادمين على الدبابات، فضرب بنفسه مثلاً على نظافة اليد والتعفف عن الرغبة في التملك، شملت عائلته وأقرباءه. كانت انتقاداً في الوقت نفسه للبرجوازية السورية البائدة، وإدانة صريحة لها بالسطو على مقدرات البلاد، دلّت إلى أن السلطة الاشتراكية لا تلجأ لهذه الأساليب الممقوتة، وذلك قطعاً للأقاويل أيضاً التي تحدثت عن سلب السلطة الثورية ممتلكات الأثرياء السوريين بالتأميم، فهي لم تُصادرها إلا لأنها كانت أموال الشعب، عادت لأصحابها الحقيقيين.
هذه الحادثة وضعت حداً لألسنة الحاقدين من مروجي الشائعات، وكانوا حزبيين بعثيين حسدوا الضباط على استيلائهم على أراض مشاع، وبناء مساكن لمناصريهم وتوزيعها عليهم بأسعار رمزية، أو بلا مقابل، من دون استشارة الحزب، ما أوقعه في الحرج، وكأن الحزب لا يحكم، ولا يحق له تقاسم التركة البرجوازية مع العسكر.
منذئذ بدأت فكرة أن السلطة مخولة بالتصرف بالأراضي التي يزعم ألا مالك لها، ومع الوقت، لم تقتصر عليها، تجاوزتها إلى مصادرة ملكيات خاصة بالوعيد أو بالتهديد، بحيث تصبح عامة، أما أين ينتهي بها المآل، فذلك شأن وطني. أعقبه توزيع المناصب والاستثمارات والمنافع والتعهدات، مع الأفضليات الممنوحة لهم، مرفقة بغض النظر عن تجاوزاتهم. كان السماح بها سخاء في الكرم، لشراء ولاء الضباط وشركائهم من التجار الجدد، ما يضمن إخلاصهم. فالزمن كان زمن رص الصفوف وراء القائد، ما أسس لسورية قوية وحديثة دعيت بسورية الأسد.
مع هبة أسعار النفط، وقدوم المساعدات من دول الخليج، وظهور البترول السوري، وتدفق الأموال، أصبحت الحاجة ماسة إلى مستثمرين واستثمارات، فلم يكن المستثمرون غيرهم. أما استثمارها فيعهد بها إلى المقربين منهم. استعادوا معها قصة البرجوازية السورية واتهمت من جديد بالسطو على ثروات الوطن، وبالمقارنة معهم، فالعسكر إن لم يحصلوا عليها بعرق جبينهم، فقد حصلوا عليها بأسلحتهم، بعدما وضعوا أرواحهم على أكفهم، وإذا كانوا قد وضعوا مقدرات الوطن في عهدتهم، فحفاظاً عليها من عبث العابثين.
في ذلك الوقت، لم يكن توصيف العملية بالنهب واردا، كان ممجوجاً أشبه بالنهب الاستعماري للشعوب النامية. ما يعرضهم لانتقادات الشيوعيين واليساريين، لا سيما أن النقاء الثوري كان مضادا للسرقة، فأدرجت الأموال في قائمة المصروفات السرية، بذلك أصبح اخفاؤها على علاقة بالأمن القومي، ما يذهب بكل من يرفع أصبع الاتهام إلى التحقيق والسجن.
بيد أن النهب لا يمكن إخفاؤه، كان ظاهراً للعيان، ولا يمكن التخفي عليه، فبات من المستحسن أن يكون عادياً من طبائع التقدم العمراني والاجتماعي، وراق للضباط والمسؤولين في جلساتهم الخاصة اعتماد مرجعية لهم، اللص أرسين لوبين الذي كان يسرق الأغنياء ليعطي الفقراء. كان اللص الفرنسي اختراع الروائي موريس لبلان، يتمتع بشعبية لدى قراء الروايات البوليسية، فأزجيت الوعود للبروليتاريا ومعهم الفلاحون برفع مستواهم المعاشي إلى حد أنهم ربما لن يحتاجوا للعمل سوى بضع ساعات في الأسبوع، إذ يجب أن يكون للتسلية والرفاهية محل في حياتهم.
أدى الانتقال من الصعيد العسكري إلى الصعيد المدني إلى اكتسابهم نضالية احترافية كان على سوية المشاريع والاستثمارات والاستيراد والتصدير، دعيت بحرق المراحل، واكبها ارتفاع في وسائل النهب، كان غطاؤه القضاء على الفقر، واحتكار الفقراء، بعدما أصاب القادمون من الريف، رشاش منها بوظائف في الدولة والمخابرات والجيش، اعتبر زكاة عن النهب المبرمج، فأصبح حلالاً زلالاً، فالبرجوازية المغضوب عليها أصبح مكانها فارغاً، حل محلها برجوازية بديلة طفيلية وشرهة، تسرق من الدولة، ما ينبغي أن يرتد على الشعب، لكنه يذهب إلى جيوبهم، ومنها يصب في حساباتهم في المصارف الأجنبية. وقد كان للقومية الفضل في الرد على من يشهر بهم، أو يكشف عن سرقاتهم، كان الاتهام جاهزاً: اضعاف الشعور القومي.
أكبر فضيحة، كانت منح الأخ الأصغر مائتا مليون دولار لتصفو البلد للأخ الأكبر. أما الرد على تخرصات المتخرصين، فكان أن هذا المبلغ من المال أعطية من القذافي، لأن الخزينة السورية كانت شبه فارغة، مع أن البلد أحوج إلى هذا المبلغ الهائل، لكن كان لابد من هذه التضحية، فالأخ الأصغر كان له الفضل في إنجاح الحركة التصحيحية، لو أنه رفض الخروج من البلد، فسلطة الرئيس إذا شاركه بها أخوه ستكون منقوصة، بينما صنعها على أن تكون مطلقة، يستفرد بها، وهو حرّ بها، وطالما أنه على قيد الحياة، يتصرف بها كما يشاء، بالتوريث أو بغيره، رغم اعتقاده أنها لن تتخلى عنه حتى وهو في القبر.
هذا المنطق سيحكم أغلب دول المنطقة، وعلى رأسهم سورية، فالوطن مزرعة تجبى عائداتها للعائلات المالكة، والمال العام هو مال خاص يتصرف به السادة رؤساء الجمهوريات، بدل أتعاب مسؤوليات السلطة، وإن لم يقودوا البلد إلى انتصارات، يكفي أنهم تحملوا تبعات الهزيمة، مع أنهم حملوها للصهيونية والامبريالية العالمية.
وهكذا، أسس الرئيس الخالد لشرعية النهب، حتى بدا وكأن النهب خالد بخلوده.
-
المصدر :
- الناس نيوز