يصف فلوبير في روايته “التربية العاطفية”، على لسان بطله الشاب فردريك مورو، تجمّع الحشود في شوارع باريس يوم 24 أكتوبر/ تشرين الأول 1848، بعد فرار الملك لوي فيليب من العاصمة، واقتحام العامة قصر “باليه رويّال”، وما عمّ من فوضى بعدها: “ألقوا بآلات البيانو والخزائن والساعات من النوافذ. حطموا الكراسي والثريات وحاملات المصابيح، مزقوا الستائر وألبومات الصور وسلال أدوات التطريز. في الفناء الداخلي أشعلوا الحرائق، عربات الإطفاء حاولت التغلب عليها، بينما قطع بعض المجرمين الخراطيم بسيوفهم، بغية أن تأكل النيران كل ما تصادفه”.
“لم يكن دافع الناس الهائجة إلى التدمير هو الثأر بقدر ما كان رغبتهم في التعبير عن سيادة الشعب في التخريب. كان الخراب عنواناً من عناوين الحرية المطلقة، وكان التلذذ بانتصارهم يعني السخرية من الملك والملكة ورجال البلاط؛ وقد وجد تعبيره أيضاً بالتهريج، إذ كان الرجال يتزينون بالشرائط والشالات مقلّدين الملك، وقد ثبتوا الخيوط الذهبية على أكمام أرديتهم القذرة، فيما توّج ريش النعام رؤوس عمّال الحدادة، واستخدمت العاهرات أشرطة أوسمة الشرف الفرنسي كأحزمة لفساتينهن البالية. وفي حجرة نوم الملكة كانت امرأة تدهن شعرها بكريم، ومجموعة من المقامرين المتحمسين يلعبون بالورق خلف ستار”.
” نظر فلوبير إلى الثوار وكأنهم أعراض فوضى عارمة”
“بينما أغار السكارى على مخازن الخمر، وانغمسوا في عربدة هستيرية مقرفة. كانت الخمر حول الممرين المقنطرين، تفيض سيولاً على الأرض وتبلل الأرجل، يشربها الصعاليك من قيعان الزجاجات المكسورة صائحين وهم يترنحون في أنحاء المكان.. أشبع العامة أهواءهم؛ فمنهم من رقص، ومنهم من تقيأ، ومنهم من غنّى، ومنهم من نام وشخر”.
بالنظر إلى هذا الوصف، أكد بعض النقاد أن فلوبير نفسه كان بين الحشود، لم يكن عمره يتجاوز السابعة والعشرين. ومع أنه ادّعى قراءة أكثر من عشرين كتاباً عن الحدث تحضيراً لروايته، لكنه اعتمد بشكل أساسي على وصف ما رآه بعينيه. لقد كان شاهد عيان.
لم يمتدح فلوبير الثوار الذين اقتحموا القصر بصدورهم العارية وأسلحتهم الخفيفة، ولا الثورة التي بدت عشوائية، ولم ينظر إليهم على أنهم الثوار الذين أفسحوا المجال للمحرومين، ولا على أن ما يجري ثورة.. ما هؤلاء إلا أعراض فوضى عارمة.
وللتأكيد عاد بالذاكرة إلى ثورة 14 يوليو 1789، وتذكّر معها مارا ودانتون وسان جوست وروبسبير، واقتحام الباستيل، والمقاصل وسيول الدماء، التي فتحت أوروبا على مبادئ الحرية والمساواة، وأعادت فرنسا إلى الملكية. بالمقارنة معها، كانت ثورة 1848 ثورة حقيقية أيضاً أسست للجمهورية الثانية، وإن حصدت ضحايا أقل.
عموماً، الرواية لم تنصف الثورات، هذا ما نراه أيضاً في روايتَي “قصة مدينتين” لتشارلز ديكنز، و”الآلهة عطشى” لأناتول فرانس، وغيرها. أما “الأم” لغوركي فإحدى تلك الاستثناءات التي تكلّمت عن الثورة في مراحلها الأولى، عندما كانت ملاحقة وبريئة ومضحية، كما حال الثورات في بداياتها، قبل أن تنكّل بأبنائها.
-
المصدر :
- العربي الجديد