حدّد كبار الكتّاب والنقاد، النوع المهيمن في الأدب، فكان الشعر في سويته العالية، فانتشرت موضة ركبهاالصحافيون، كانوا الأقرب إلى القلم والكتابة، بالتالي لا بد لكل صحافي من قرض الشعر، خاصة أنه لا يحتاج إلى وزن وقافية، أشبه بنثريات وجدانية لطيفة وخفيفة، لا تُفصح قدر ما تلمّح. استلوا مفرداتها من قاموس الطبيعة والحب والأساطير واليأس، والغرور أيضاً.

بذلك أضاف الصحافي النشيط إليه لقب شاعر، وحقق نقلة شاعرية. أما الشعراء الذين جاؤوا من بريد القراء، فكانوا عشاقاً أكثر منهم شعراء. أطلق الشعر العنان لأحوالهم الغرامية المتقلبة، واختفوا مع انسحاب المؤثر العاطفي.

انصبّ جهد الصحافيين الشعراء على إزاحة القباني عن عرش المرأة، وحسدوا الماغوط وحقدوا عليه مع أنهم تمسّحوا به، واستعصى عليهم أدونيس فنبذوه، وإن اعتبروه نبيّهم الحداثي. فكانوا جميعهم شعراء المرحلة العابرة.

” التنصل من المسؤولية، من تداعيات الموضة الدارجة”

مع اشتداد عود اليسار، ظهر أبطاله وطالبوا الكتّاب بالالتزام بقضايا الجماهير، ليس تأسياً بسارتر حسبما يزعمون، وإنما بلينين وستالين، فالوجودية ازدراها المثقفون الملتصقون بالجماهير. لم يطل الوقت حتى ضاقوا ذرعاً بالشعب، كان فقيراً وجاهلاً، أعطوه أكثر من حجمه، حتى السلطة التي تذرّعت به، نفضت أيديها منه، والتفتت إلى إخضاعه، وكتم أنفاسه، ومثلما خرج الشعب من التاريخ، خرج الالتزام من الأدب.

بعدما ذهبت موضة الجماهير، تحوّلت نحو قضايا العصر السعيد، وتبنّي الرائج منها، وكان على رأسها التحرّر من الدين والجنس والسياسة. المشكلة مع الدين سهلة، لا عوائق، فالنظام ورجالاته لا يُصلّون إلا صلاة العيدين، ويصومون رمضان في العلن ويفطرون في السر، كما لا حج ولا زكاة. عدا هذا كان الدين مباحاً، أبطاله الميامين في السجون. أما الجنس، فاستباحوه بتخيلاتهم، وأفرطوا فيه، قدر ما سمح به حرمانهم وركاكتهم الأدبية. بينما السياسة كانت مؤجلة، على الأصح تركت للمعارضات المطاردة المغضوب عليها.

في أوقات الفراغ، كانوا يستعيدون موضة الحط من النفس، ارتبطت بظاهرة جلد الذات، فالهزيمة رغم توالي السنين، ينبغي التلذذ بها من عام لآخر، ليُعزى إليها ما حلّ من تدهور، يحلل الاستنقاع في التفسخ، ويسوّغ التحرر من الأخلاق، فالفقر والعشوائيات تبيح الانقضاض عليها. فوصفوا أنفسهم بالأوغاد، فالموضة كي تبلغ مداها التحرّري، جعلت الأديب المتطفل على الحداثة، يتباهى بدونيته، ويستعرض تحلّله من القيم.

فلا نستغرب، أنه على بعد خطوات، هرع حملة الهراوات والعصي وما توفر من الأسلحة، لقمع المظاهرات في شوارع دمشق والأرياف القريبة، واقتحموا البيوت بالقوة واقتادوا الشبّان إلى المعتقلات. لم يحرّكوا ساكناً، فالتنصل من المسؤولية، من تداعيات الموضة الدارجة.

الذين لم يغفلوا صرعات الموضة، كانوا حسب ظنهم على مستوى العصر، وأحياناً سبقوه خطوتين إلى الأمام، لم ينتجوا شعراً ولا نثراً، لكنهم قدموا مثالاً فذاً على حماقة العمى، وقمع الواقع. أما الأخلاق، فالموضة لا تعترف بها.