الخدع التي ليس لها علاقة بالسحر، تدعى بألعاب الخفة، أي خفة اليد، وهي على صلة بفن الإيهام بقدرات خارقة للطبيعة عن طريق استخدام الخداع البصري. قبل سنوات كانت الخفة من نصيب الأدب، ليس من قبيل القدرات الخارقة، وإنما على شكل ترفيه ناقد غير مستهجن، بحيث تبدو كأنها انتقادات جذرية، قد تودي بصاحبها إلى المعتقل، لكن من باب الايهام، بينما هي آمنة.
عموماً، طالت الخفة الحياة والحب والرجل والجنس والسياسة والوطنية الزائفة، ما أوهم بأنها ستغيّر طرائق الحياة المكفهرة، لا سيما وقد بشّر بها انحسار الجدية المبالغ بها، والتخفف من حمولات الأفكار الكبيرة والمصطلحات الضخمة؛ كسرت بعضاً من الثقل الأيديولوجي لطرائق الكتابة والتعبير، التي باتت عبئاً على مثقف يرى العالم يتغير، وما يحيط به ثابت الأركان.
بدا وكأنها رد فعل على التزمت الذي طبع عقوداً من التضييق والكبت، وبما أن الايهام رافقها، لم توفر عالم الطغيان بسخريات غلبت عليها الطرافة، سجّلت تقدماً في مواجهة اقتصرت على التنفيس عن عقود من التجهم، شكّلت على مدى سنوات طويلة مأتماً مستديماً كفعل عاجز مضاد لكوارث أحاقت بالثقافة والأوطان، وكرّست اليأس.
عموماً، الواقع المتردي لم ينتظر هذه النقلات الصغيرة المرائية، أجرى تغيّراته بشكل مفاجئ أدهش العالم، فكان هذا الربيع التراجيدي الذي ازدهر أشهراً معدودة، إلى أن دخلنا نفقاً ذيوله المظلمة هدّدت المنطقة بعصر انحطاط طويل، إن لم تتداركه معجزة طال انتظارها، بعد أضحيات وتضحيات كانت الأكثر كلفة من حروب الهزائم الماضية.
تبدو المعجزة، بحكم أنها معجزة، أشبه بلعبة من ألعاب الخفة، لن تفلح مهما جرى النفخ فيها، بعدما مضى عهد المعجزات الحقيقية والكاذبة. كما أن الانخراط في لعبة ربيع لم يستمر، عملية مخفقة، بعدما أحاله الاستبداد إلى أداة تدمير فعّالة، أودى بنا إلى واقع لا مهرب منه، انكشفت فيه حقائق التبست بالإرهاب والإسلام، شملت العالم الذي استعان بقاموس التطرّف، ليرجع بنا إلى حالة من سوء الفهم المعتاد، والارتداد دفعة واحدة إلى الأسلحة القديمة المستوحاة من الإرهاب نفسه، متوعداً بتأجيج حرب غير مقدّسة، الإسلام فيها المتهم الأكبر.
الخفة، في أحد جوانبها الرئيسة، كانت دعوة أيضاً إلى التخفف من الانغلاق والتشدد والتعصب، ومعالجة القضايا الإنسانية المؤلمة بروح منفتحة على الآخر، فإذا بها، بحكم أنها لعبة وهم، انقلبت إلى عكسها؛ مزيد من التخفف من القضايا الجوهرية الملحة، وهي التخلص من الاستبداد، وإحالتها إلى استثمار وحيد يختص بالإسلام والإرهاب، باستعادة ألعاب الكلام، الكثير من الكلام الذي لا يقول شيئاً، سوى أن الدين أصبح وبالاً على شعوبنا، في استسهال القتل والموت. ربما كان الدين بالنسبة لبعض الناس زائداً عن الحاجة، لكن لا يمكن التخفف منه، ولا استبداله أو تعويضه، ولا الحلول محله، وإنما الحفاظ عليه في مكانه الفعّال: الروح.
لا تفتقد الدعوات الجديدة إلى الحماقة، لكنها حماقة تقتات من الدماء والأرواح، فيما لو استمرأت ما تفعله، فعصر جنون جديد بدأ.
-
المصدر :
- العربي الجديد