بعد مضي ستّ سنوات على الثورة، أو الانتفاضة، وأيضاً الحرب الأهلية، الإقليمية، العالمية، الكونية… اختصاراً ومنعاً للجدل سنصفها بـ”الحدث السوري”، يدور جدل مبطّن في الصحافة الثقافية، غير مخطّط له، آراءٌ تتناثر من مقالات لا على التعيين، تلمّح أو تقول بصراحة، إن من يكتب رواية أو قصة وشعراً، يرتكب خطأً فاضحاً، ستفوته أشياء كثيرة، فالأوضاع لم تنكشف بعد، الكتابة غير ناضجة، تفتقد إلى الفن، عموماً لا قيمة لها. تطرح هذه الأصوات تقييماً قد يبسط ظلّه على الأدب، بما يشبه منع الكتابة، ومنع القراءة، إلاّ بعد أن تضع الحرب أوزارها.
إذا كان الكُتّاب سينتظرون نهاية الحدث السوري، فلا نهاية له، إلاّ إذا اعتقدوا أن النهاية هي إسقاط النظام، أو عودة الشعب إلى الطاعة. وحتى في حال تحقّق أحدهما، الحدث لن يتوقّف، سيبقى مستمرّاً، وسوف تبقى تداعياته عشرات السنين. ما يبشّر بايقاف الكتابة عشرات السنين أيضاً. بعضهم كانت بصيرته حاضرة، وحدّد المدّة بمئة عام، انسجاماً مع الروسي تولستوي الذي كتب عن غزو نابليون لروسيا روايته “الحرب والسلام” بعد هذه المدّة من الزمن.
” الروائي يكتب عن البشر في التاريخ”
ترى لو كان تولستوي حيّاً لدى وقوعها، ألن يكتب عنها، أم يقعد مكتوف الأيدي، ليبدأ انتظاراً يستهلك عمره من دون جدوى؟ أم أن مسألة الانتظار، لمعرفة الغالب والمغلوب، لئلا تخطئ الرواية في التخمين. وكأن المطلوب من الروائي أن يتنبأ بالمنتصر الذي لا تتمّ الرواية إلاّ به!
رواية “الحرب والسلام” لا تصلح كمثال، حتى لو اختلقت قاعدةً، ففي عالم الرواية لم توضع القواعد إلاّ لتُخرق. أما دعوى نضج الحدث لتنضج الكتابة، فخلط بين عمل المؤرّخ وعمل الروائي.
فالمؤرّخ يوثّق الحدث من أجل أن يكتبه، وتريّثه بانتظار ظهور وثائق جديدة، فما يدور في الكواليس لا يُنشر في وسائط الإعلام. بينما الروائي يقف في خندق يشرف منه على المجريات، يلتقط لحظات ترمي بالبشر على محكّ الحياة والموت، إزاء حقائق تضع مصائرهم في محنة من التحوّلات المريرة، فالحرب تقلب الأشياء والبشر، ما يشكّل نبعاً لا ينضب للخبرة الإنسانية، في انكساراتها وخساراتها ومقاومتها، وما تعنيه الحياة كلّها… فلا مبرّر لإنكار فرص تتيح للروائيين الكتابة وبمرمى أبصارهم يتجسّد نضالُ السوريين ضدّ الجوع والركوع والدكتاتورية والطائفية والشرائع الكاذبة.
إن المؤرخ يكتب التاريخ، أمّا الروائي فيكتب عن البشر في التاريخ.
بالوسع الإتيان بأمثلة على روايات عظيمة كُتبت في أثناء الحرب، كرواية “الجندي شفيك” في الحرب العالمية الأولى. وهذا ليس قانوناً معتمداً، ببساطة، إنها مسألة اختيار، هناك من يكتب، وهناك من يتريّث، وهذا لا يمنع ذاك. أمّا الفن فيأتي من الكتابة، كلاهما سيكتب، والانتظار لن يكون المعيار.
بدأت الكتابة عن الثورة مع بداياتها، ولن تتوقّف حتى بعد مئة عام، هناك تولستوي آخر، ليس في حالة انتظار، سيكتب أيضاً.
-
المصدر :
- العربي الجديد